** تستثير بعض المواقف أموراً مختزنة في الذاكرة منذ أمد بعيد ويعتقد أنها أصبحت في طي النسيان، ولكن تفاجأ - وسبحان الخالق - بتدفق تلك الذكريات وكأنها مشاهد حية عندما ترى أو تقرأ ما يتصل بها ولو بشكل غير مباشر.
أقول هذا عندما اطلعت على المقابلة القيمة التي أجرتها جريدة اليوم في عددها الصادر بتاريخ 3/6/1424هـ مع معالي الأستاذ/ تركي بن خالد السديري الذي أتحفنا ببعض ما يملك من رؤية ثاقبة وثقافة عالية وخلق رفيع وتواضع جم بالإضافة إلى التجربة الإدارية الثرة التي تراكمت خلال 35 سنة من الخدمة الجادة، ولقد قرأت تعليق كاتبنا المبدع حمد بن عبدالله القاضي الذي نثره وروداً بجريدة الجزيرة الصادرة بتاريخ 27/6/1424هـ عن هذا الرجل الحاضر الغائب.
لقد أعادت هذه المقابلة وهذا المقال عقارب الزمن ما يقارب الثلاثين عاماً عندما كان معاليه نائباً لرئيس ديوان الموظفين العام وكانت علاقتي بمعاليه تراوح بين المباشرة وغير المباشرة حسب نوع العمل الموكل إلي، وفي كلتا الحالتين كان مثالاً للموجه الناصح والإداري الناجح، كان صريحاً دون الإساءة وصارماً بغير شدة، كان يحمل هموم قاصديه - وما أكثرهم - عندما لا يستطيع تحقيق رغباتهم، كان همه الأول والأخير لا حرمان مما يقره النظام ولا تجاوز لما ورد فيه.
لقد عايش السديري مرحلة مهمة من تطور الخدمة المدنية في المملكة، وأكسب بداياتها التطويرية، وترجل بعدما شبت عن الطوق وأصبحت من الإنجازات التي يشار إليها بالبنان.
***
** ولعل من المفيد أن أذكر بهذه المناسبة موقفين من المواقف المثالية لمعاليه وهي كثر وذلك على سبيل الاستشهاد فقط، الأولى حدث امامي، والثاني بيني وبين معاليه، وذلك للتدليل على ما يتمتع به معاليه من خصال حميدة لا تغيرها المناصب او خلافها.
* الموقف الأول: في عام 1393هـ او 1394هـ - لا أذكر بالتحديد - كنت عند معاليه وكان وقتها نائباً لرئيس ديوان الموظفين العام إذ دخل رجل كبير السن وما أن سلم عليه حتى بدأ يذكر حاجته مع استمراره في الوقوف فطلب منه معاليه الجلوس ولكنه اعتذر بحجة الاستعجال في الانصراف فما كان من معاليه إلا أن استمر واقفاً حتى انصرف الرجل، كان مطلبه محدداً يتمثل في رغبته إلحاق ابنه بوظيفة يطلب لها تأهيل علمي لا يقل عن الكفاءة المتوسطة بينما لا يحمل الابن سوى الشهادة الابتدائية، حاول معاليه إفهام الرجل بما يمكن عمله مع الاعتذار له بلطف مبيناً أنه لا يستطيع تجاوز النظام وما يطبق على أمثاله، فبادره الرجل قائلاً:« إذا لم تستطع يا تركي فمن يستطيع أنا جاي ناصي الله ثم ناصيك وأعرف أنك تقدر بس ما تبي تساعدني»، لم يغضب معاليه بل رد بابتسامة صاحبها ووعد ببحث الأمر على أن يعود إليه بعد ثلاثة أيام وطلب مني دراسة الموضوع للنظر إن كان هناك مخرج نظامي، وقال أمثال هؤلاء لهم حق علينا ومساعدتهم واجبة ولكن وفق النظام لأن الجميع سواسية امام النظام.
* الموقف الثاني: كان في العام 1407هـ وكنت حين ذاك مديراً لإدارة علاقات الموظفين إذ قدمت اقتراحاً شخصياً لمعاليه بأمل التوسط لدى المقام السامي - وهو القادر بعد توفيق الله على تحقيق ذلك - لمنح موظفي الديوان أراضي سكنية أسوة بما صدر لموظفي بعض الجهات الحكومية فشرح معاليه للمفاهمة الشخصية، وعندما حضرت قال بالحرف الواحد بعد أن أثنى على الاقتراح في جانبه الإنساني «أنا مسئول عن جميع موظفي الخدمة المدنية في الدولة ولا يسعني أن أشفع لموظفي الديوان دون غيرهم وليس في الإمكان الطلب للجميع»، وبقدر ما آلمني عدم تحقيق ذلك بقدر ما أكبرت نظر\ته الشمولية البعيدة.
كلمة أخيرة ننتظر من معاليه نشر ما يملك من تجارب إدارية وقيادية ليستفيد منه جيل الحاضر، وأجزم أن الكثير من محبيه يشاركني هذا الطلب.
محمد بن عبدالكريم العنيق
زميل سابق - وزارة الخدمة المدنية
|