أجرت جريدة الرياض على موقعها في الإنترنت استفتاءً عن الموقف من قيادة المرأة للسيارة، لكنه لم يستكمل وتوقف بعد عدة أيام، ولم يُعلن سبب لإيقافه، لكن النتائج الأولية أظهرت ممانعة جماهيرية لمبدأ قيادة المرأة للسيارة، ولم تكن أغلبية ساحقة، فنسبة غير قليلة من المشاركين أيدوا أن تقود المرأة السيارة، ومن خلال تلك الفئة يجب أن تقرأ نتائج الاستفتاء الذي لم يكتمل، لكن غياب استفتاءات مماثلة في الماضي زاد من صعوبة تحديد حجم التغيير الاجتماعي الذي حدث وسيؤثر إلغاؤه على القيمة العلمية لاستفتاءات المستقبل، والتي يجب أن تراعي أساليب المنهج العلمي.
والممانعة الجماهيرية لقيادة المرأة للسيارة حسب علمي ليست نتيجة لموقف الشرع منها، فلا يوجد دليل قطعي يحرّم قيادة المرأة لعربة في الشارع، وإنما قد تعني من زوايا اخرى ان المجتمع لا يزال «يخاف» من تبعات قيادة المرأة للسيارة، وهي رؤية حذرة وقلقة وتستحق القراءة من زاوية إنسانية بحتة، فسيكولوجية الخوف من التحرر الاجتماعي ومفاسده وقضايا الشرف وعورة المرأة لها جذور في خلفية ذلك الرفض، وأكاد أجزم أن النسبة ستكون أعلى بين النساء في بعض المناطق، لكن الخطورة الحقيقية ان يجعل البعض من هذه القضية الثانوية عقيدة سياسية، أو تكون شعاراً للإصلاح عند فئة أخرى، فلا يجب أن تحمل أكثر من حق يطالبه به بعض ويرفضه آخرون، فالمجتمع لديه أولويات أكثر أهمية من أن تقود امرأة سيارة في الرياض أو جدة، وإذا كانت بالفعل رغبة غالبية الجماهير في الوقت الحاضر ترفض أن تقود نساؤهم السيارات، فليكن، ولكن مادام الأصل في الشيء الإباحة، وأنه لا يوجد دليل قطعي من الكتاب والسنّة يحرّم ممارستها، فيجب أن تؤمن الغالبية التي تمانع بحق الذين يطالبون بقيادة المرأة للسيارة، وذلك أسوة بالرجل.. وقد أحدث سوء الفهم لأغراض الاستفتاءات الجماهيرية، نوعاً من اللبس حول شرعية رأي الأغلبية في القضية المباحة شرعاً، فهل يعني رفض الأغلبية لممارسة أمر مباح، تحريمه على البقية المؤيدة.
في تاريخنا الحديث قضايا مشابهة للقضية المثارة، فقرار تعليم البنات واجه رفضاً في البدء لأسباب أيضاً غير شرعية، ونظراً لأنها مباحة شرعاً.. صدر قرار فتح المدارس للبنات برغم من أن الأكثرية كانت ترفض بشدة مبدأ تعليم المرأة في المدرسة، وقد كان الخوف من خروج المرأة من البيت إلى الشارع أحد الأسباب الحقيقية لممانعة الجماهير في ذلك الوقت لتعليمها، وقد ترك أمر إدخالها للمدرسة النظامية اختيارياً لولي أمر الفتاة ولم يمض عقد من الزمان حتى التحقت البقية بركب تعليم البنات خارج البيت، ويدخل ضمن نفس الاطار وسائل الإعلام والإنترنت وعمل المرأة في المستشفيات والسفر للخارج وغيرها من الأمثلة، فقرار السماح لقيادة المرأة للسيارة إذا صدر سيكون بالتأكيد اختيارياً..!، وعلى الغالبية غير المؤيدة إدراك أن هناك من الاقلية المؤيدة من يرى أن «السائق الاجنبي أكثر شررا وأعظم خطرا على العائلة من أن تقود مثلاً زوجته المحتشمة عند الضرورة «عربة» في شوارع مدينة سكانها محافظون وملتزمون بالأخلاق الإسلامية وأن هناك فئات في المجتمع لا تملك القدرة المادية لاستقدام سائق، وفي نهاية الأمر ستظل قضية قيادة المرأة المحتشمة للسيارة أمراً مباحاً واختياراً يجب أن يظل قرار ممارسته فردياً مهما صدر من بيانات وفتاوي ضد قيادة المرأة للسيارة.
ويجب الإشادة بتجارب الاستفادة عن القضايا الشائعة، فالتواصل بين الإعلام والجماهير ضروري لإدراك ما يحدث في المجتمع من ردود أفعال على المقترحات أو القرارات الرسمية.. والقضية المثارة أحد أهم شعارات المرحلة بين التيارات المتصارعة في المجتمع، ورموزها هم أعلام النخب الثقافية الدينية والتحديثية، والتي يجب أن تتوقف عن لعب أدوار الإسفنج أو مؤجج النار بين الحكومة والجماهير، وأن تؤدي أدوارها بموضوعية، وتؤمن بواجباتها تجاه قضايا الناس ومختلف فئات المجتمع، وألا تجعل من قضايا هامشية أو حتى القضايا التي تمس حاجاتهم الضرورية شعارات صراع فكري أو سياسي، والتحدي الأكثر الحاحاً لمواجهته في المجتمع هو ضرورة بدء التواصل بين الرموز الدينية ودعاة التحديث، فغياب قيم مشتركة ومتفق عليها بينهما، وأساليب طرح القضايا الخلافية في قوالب محمومة بالصراعات العقدية السياسية هو الخطر المحدق بالمجتمع، ويزيد من ذلك غياب دعاة التحديث من أروقة الحوار الوطني، ويجب أن تظل العلاقة بين الفئتين جدلية أي ضرورية وتواصلية، فالواحد ينتفي من دون الآخر. ولا معنى لأي دعوة للتغيير الاجتماعي من دون أن تكون إصلاحية على جميع المستويات.
وقد اثبتت مهام نشر الوعي بأساليب ومناهج التفكير العلمي الحديث جدواها، كما ان التحديث لا يكون علمياً إذا لم يكن يهدف إلى الاصلاح الحقيقي، ويتوافق مع الارث الحضاري، ومن يعتقد أن رحلة الإصلاح تبدأ من محطة التغيير الاجتماعي مخطئ، فالتطور في ذهنية الجماهير عادة يصاحب عملية التحديث من خلال مشاريع التنمية الجبارة والطفرات العلمية، فالتحديث سيظل شكليا وسطحيا ما لم يتضمن تحديث الوعي الاجتماعي.
وأعني بتحديث الوعي الاجتماعي إعادة تركيبه على أساس القيم العملية والعلمية وإكسابه عادات التفكير العلمي. فالوعي الاجتماعي المحدث هو الوعي الذي أطلقته الثورة الثقافية وزلزلت أركانه العقلانية العلمية، واخترقت مساماته المتشعبة في بنية المجتمع الداخلية قفزات التقنية والاتصالات.
وإذا استعرضنا التجارب التنموية التحديثية الكبرى في الحقبة الحديثة، سنجد أن تحديث الوعي الاجتماعي كان في مقدمة مهمات التنمية، والتباطؤ في دفع مشاريع التنمية للأمام سيخلق قاعدة لغوغائية الجماهير وسيسيّس حركات الإصلاح أو التغيير من خلال شعار «قميص عثمان» أو غيرها من الشعارات السياسية.
هذه أهم عقبة يجب تجاوزها في الحاضر، فالتغيير الحقيقي لا يتم من خلال تسيس الشعارات أو إضفاء القدسية عليها، وهو النهج الذي حكم عقلية السياسة العربية منذ أيام الفتنة الكبرى، وقد علمنا أيضاً التاريخ.. أن محاربة عنف الشعارات من خلال نظرية الأمن المحكم لا تكفي، لكن بالتأكيد تخمد نيرانها في المهد معالجة الظروف الموضوعية التي تجعل منها قوة جماهيرية صاخبة.. واستلام زمام قيادة التغيير الإصلاحي في الداخل، والإعراض عن الرضوخ لسياسة الأمر الواقع في حال أن خطوات الإصلاح لا تتعارض مع جوهر المقاصد الشرعية.
|