وسط تلك الضجة التي ملأت أذنيه الصغيرتين تسلل الى حذر يخطو برفق.. حتى لاتكتشفه جدته!.. ارخى سمعه.. فها هم يتهامسون.. على بركة الله بارك لك.. وبارك عليك..
تلصص من ثقب المفتاح فرأى!!
رأى شيئاً لا يمكن ان ينساه في حياته.. رآها.. نعم هي والدته وقد توشحت لباساً ابيض وبدت كأنها البدر في تمامه ولكن؟؟
قليلاً.. قليلاً اجال طرفه وبالقدر الذي سمح له بها الثقب.. اراعه امر هز اركانه الصغيرة حتى تسربت رعشة قوية عبر اوصاله الغضة فارتجف قلبه وتساءل:
ما هذا الرجل الذي بجانبها.. بالطبع ليس ابي «حمود» انه ذلك الزائر الذي كان عند خالي «احمد» واشترى لي تلك اللعبة!!
يا إلهي انه يمسك بيدها ويتوجهان نحوي.. عفواً نحو الباب.. وماهي الا برهة حتى صفعته شدة الانوار فكان وجهاً لوجه امامهما!.
كانت تلك النظرات من عينيه الصغيرتين نحو والدته كفيلة بأن تفهم ما يجول بكينونته التائهة من لحظات عتاب تملأ المكان..
اما الرجل.. اما صاحب الهدية فقد ناله نظرات من خيبة الامل.. والاستحقار..
لم يعيراه ذلك الاهتمام.. ومضيا الى الخارج حيث كانت السيارة بسائقها في انتظارهما.. استقلاها يشقان طريقهما الجديد المحفوف برغد العيش دون مبالاة به.
جلس على عتبة المنزل يرقب غروب المركبة بما فيها فسقطت دموعه عبر خديه.. وعاد للداخل يجر الخطى وقد عاهد نفسه بأن يخبر اباه بهذا الحدث الفظيع فلم يتبق لديه سند في هذه الحياة غيره، في المساء.. في اليوم الثاني للصدمة التي تلقاها من والدته تسلل خلسة واطلق لساقيه الصغيرتين العنان..
اقترب من منزلهم الغالي.. تلمس جدرانه.. وشم رائحة التراب المتناثر حول الشجيرات الرطبة التي تحيط بذلك الشموخ.. تراءت له سنواته القصيرة بين جنباته، رأى نفسه يحبو.. ويلهو.. ويبكي ويضحك..
دفع الباب ودلف منه! كانت الانوار مضاءة ورائحة البخور تفوح في كل مكان!!!
اشرقت شمس والده عندما لاح محياه امامه..
حدث نفسه.. نعم هو والدي «حمود» والكل يسلم عليه.. سأذهب اليه.. سأهمس بأذنه وأخبره سراً ماذا رأيت دون ان يسمعني الرجال، سأرتمي باحضانه وابكي.. بل انزف حرقة قلبي لجرح مسموم يجب تطهيره بقصد قطرات الدم الفاسدة منه..
نعم.. كان يحدث نفسه بكل الهموم.. بكل القلق الذي اعتلى محياه، ولكن راعه عدم اهتمامه به..
تذكر خاله وهو ينهره دائماً بابن..!!
تساءل كثيراً لماذا انا هنا وحدي دون امي التي غادرت عالمي الى الابد.. وابي القريب البعيد.. من عاش بجانبي قليلاً.. من وافق على بعدي عنه وتنازل عني بسهولة..
وسط تلك التساؤلات اندفع نحو والده كأنه سهم محموم.. غرس رأسه الفائر بحضنه وحاول الوصول الى اذنه ليهمس له.. لينثر امامه هموم الروح المذبوحة ولكن!!؟!
اباه اليوم قبّله قبلة باردة واجلسه بجانبه وهو يستغرب حضوره في هذا الوقت بالذات ويكرر عليه السؤال بحزم: من أتى بك الى هنا؟؟ لم يعلم بأنه هارب من وحش الغربة! ماهي الا لحظات حتى ضج الجميع ونهض والده بصحبة مجموعة من الاشخاص للداخل.. فدس جسده الصغير بينهم.. ولكنهم نهروه.. وابعدوه عن الباب.. وسمع من يقول ممنوع دخول الاطفال!.
حملوه رغماً عنه وغادروا به الى منزل خاله..
وعند الباب سمع حامله يعتب على خاله بكلمات عرف بحسه الطفولي بانها تعني اللوم لانهم اشترطوه امام القاضي خالصاً لوالدته دون تدخل والده به الا للزيارة فقط فكيف يتركونه يهيم على وجهه هكذا!!.
استلمه خاله وهو يزج به الى الداخل شاكراً مرافقه وعائداً الى «عزوز» بتلك الصفعات القاسية والكلمات الجارحة التي زرعت بقلبه الشتات فتلونت امام عينيه فصول السنة بآن واحد.
خلد الى النوم بكدر، تغسل وجهه قطرات من الدموع المرة وانفاسه تكاد تنقطع، ولكن لابد من الهروب من الواقع الأليم ولو من خلال النوم..
كان الجو قارصاً.. وانفاسه تتلاحق.. فقد عاودته نوبة الربو اللعينة.. تخبط باحثاً عن آلة البخار.. ولكنه لم يجدها.. لايعرف اين وضعتها والدته قبل رحيلها؟؟
سعل بهزل وضعف حركته فسقط وسط الظلام.. وهدأت.. أنفاسه!؟!؟!؟؟.
|