كانت برعما ساحر القسمات تفتق عن خمسة عشر ربيعا سندسيا من صفاء عذب يغفو في مهد احلام قزحية الألوان، خمسة عشر ربيعا تتأرجح في خضم أحلام علمية وعملية مستقبلية تشق عنان سماء الخيال بلا حدود. ليس مهما اسمها.. بقعة الحبر الصغيرة المنسية على صفحات شهادة ميلادها.. إذ لم يكن ثمة من يهتم به حقا أو يذكره إلا نادراً.. وقد اعتادت ذلك ولم تبال، وأصوات الأهل تناديها «يا بنت»، تعالي يا بنت.. اذهبي يا بنت.. فتدرك أنها هي المقصودة فتجيبهم بصمت إلى ما يطلبون. أما في المدرسة فقد اكتفت المدرسات الإشارة اليها بقولهن: «الفتاة التي تجلس في الزاوية».. وكانت تقبع في أقصى الزاوية من أي مكان تجلس.. وفي كل مكان.
عندما أتمت عامها الخامس عشر، ألبستها أمها ذات مساء ثوبا أحمر ضيقا ولونت وجهها بألوان كثيرة صاخبة، ومشطت شعرها الذي لم تسمح لها أبدا بقصه منذ الطفولة لتتركه في هذه الليلة مسترسلا على ظهرها كأبعاد ليل معطر الغموض..
وأخذتها معها إلى حيث لم تحب أن تذهب، زحام أفواج النساء خانق، والزغاريد المجلجلة تصم الآذان لتختلط باللغط الذي يرتفع في أصوات تنم عن أحاديث مطرزة بالغيبة وهذيان التفاهة اللامحدودة، والأسوأ من ذلك نظرات عجوز مروعة، نسيت حسناء الثوب الأبيض المكلل بالياسمين على مسرح الحفل، وظلت ترمقها بنظرات تكاد تخترق جسدها حتى نخاع العظم.. فذابت خجلاً وأحست مزيجا من الخوف والقرف الذي تعانقه دهشتها اللامحدودة، إذ لحظت من طرف خفي ذلك البريق المفعم بسعادة خفية تومض بها عينا والدتها لسبب كان فوق حدود فهمها في تلك اللحظة.. وفهمته بعد شهر من تلك الليلة، عندما وجدت نفسها ذات ليلة قد أمست هي حسناء الثوب الأبيض المكلل بالياسمين على مسرح حفل ذاك المكان نفسه. وفي اليوم التالي اكتشفت ان مخلوقا قادما من عالم مجهول يسبح في أحشائها..
وكانت أمها سعيدة بتخلصها من تلك العورة المؤبدة.. ذلك الحمل الثقيل الذي اسمه (بنت)، وسعيدة بصناديق الفاكهة والحلوى والهدايا التي يحضرها ذلك الشخص الذي خلصها من عورة عمرها خمسة عشر عاما، لقد بدأت تحصد ما زرعته.. كانت تنصت بنصف أذن لحديث ابنتها الحالم بالعمل قبل تزويجها أحياناً، لكها كانت تدرك منذ البداية أن ذلك لن يحدث، أي عمل وأي دراسة تلك التي تتشدق بها تلك البنت الغريرة الممرورة؟!!، هرطقة.. هذيان أطفال.. البنت ليس لها إلا البيت.. لكن لا بأس بمجاراتها في الحديث، كلام يتبخر في الهواء لحظة السكوت.. لم تفكر يوما أن ابنتها لو عملت ستحضر لها ذاك الشيء او تشتري لها تلك الهدية، بل كان تفكيرها منصبا منذ يوم ميلاد تلك الطفلة على ما سيحضره زوجها المستقبلي المنشود من هدايا وصنادق الفاكهة والخضار والحلوى، بل وربما اللحم واللبن والثياب ايضا.. هذا هو الحصاد وليس سواه. أما البقية فستتركه لأبنائها الذكور الستة، لهم ما يشاءون فعله، فهم مهج الفؤاد وأملها الحقيقي المنشود.
أما (البنت)، فبعد تسعة أشهر من حملها أنجبت طفلا ذكرا.. وبعدها بعشرة أشهر وعشرة أيام بالضبط أنجبت طفلا ذكرا آخر، وشعرت عندها أن تحقيق أحلامها العلمية أمر صار يقبع في قلب المستحيل، وترنق كأسها الفائض بأحلامها العملية وتحطم في أعماقها التي بدأت تتآكل. وكان زوجها يضربها كل يوم ويسبها ويشتمها ويرفسها ويبصق في فمها وهي صامتة، ومن يسمح لامرأة بشكوى من وجع؟.. عيب.. وماذا يقول الناس.. وبعد أقل من عشر سنوات معجونة بالذل والغبن والآلام وجدت نفسها أماً لعشرة أطفال عدا جنين في بطنها، تسعة ذكور وطفلة انثى واحدة جميلة كالدمية.
وقامت الحرب.. وخرج الزوج ذات يوم ولم يرجع، ونبأها غراب أعور أعرج منتوف الريش بأن نيران غارة جوية قد التهمت جسد زوجها.. ولن يرجع إلى الأبد، فلم تحزن ولم تفرح، لكنها خافت كثيرا..
وانتظرت من رجال القبيلة أن يساعدوها وبالفعل.. في اليوم الأول أتى عشرة من رجال القبيلة يحملون الطعام لها ولأطفالها. وفي اليوم التالي أتى خمسة منهم، وفي اليوم الثالث أتى اثنان فقط، وفي اليوم الرابع لم يأت إلا واحد من رجال القبيلة، أما الباقون فقد انشغلوا بأولادهم ونسوها هي وأولادها تماما وفي اليوم الخامس لم يأت أحد من رجال القبيلة أو غيرهم، ونام أولادها جياعا..
وفي اليوم السادس صار أولادها الجياع يبكون ويستصرخونها لنجدتهم، وعندما بزغ شعاع اليوم السابع لم تستطع صبرا وكبدها الحرى تتفطر على اطفالها وهي تراهم يهلكون جوعا تحت سمعها وبصرها دون أن تقدر على فعل شيء، فلفّت جسدها ببطانية قاتمة قديمة وخرجت بهم إلى الشارع لتتسول، إذ لم يكن ثمة صنعة تحسنها غير ذلك. وفي زقاق منتن يضطرب في أجوائه الذباب السابح في سحب من الغبار والهباب والدخان الخانق.. قبض عليهم شرذمة من غيلان الحرب. قبضوا على أولادها الذكور وشووهم واحدا واحدا على بقايا نيران غارة تشتعل، وبدؤوا يتلذذون بالتهامهم وهم يقهقهون، أما الطفلة بسنواتها الأربع فقد غرز أحدهم في رأسها رمحا وقرر تجميدها والاحتفاظ بها ليهديها طفلته تلعب بها يوم عيد ميلادها العاشر.. أما الأم فلم يلتفتوا لها، استحلفتهم أن يرحموها ويشووها مع اطفالها لكنهم لم يأبهوا بها، فقد بدت بشعة سمينة مترهلة كبالون مملوء بالشحم والدماء الفاسدة العتيقة، وتركوها تهيم على وجهها، لتنجب المزيد من الأطفال الذين يقرمشون عظامهم، ويحولون جماجمهم كؤوسا تطفح بالطحالب العفنة والدماء السوداء.
|