بعد عصر يوم الثلاثاء الموافق 21/6/1424هـ ودعنا حبيباً غالياً له مكانته في القلب، ودعنا رمزاً للخلق الرفيع والتواضع الجم، ودعنا رجلاً محباً للخير ساعياً له، إنه الشيخ سعد بن عبدالعزيز أبو حبيب الشثري، الذي عانى طويلاً من المرض، ألا إن القلب ليحزن وإن العين لتدمع، ولا نقول إلا ما يرضي الرب، وإنا لفراقك يا أبا عبدالله لمحزونون.
في ليلة غاب فيها القمر جلست أتأمل حياة الشيخ سعد - رحمه الله - تعالى فقادني التفكير للقلم لأكتب عنه - رحمه الله - واستلهم بعض الجوانب من حياته - رحمه الله -، فهذا بعض من الوفاء له.
ففي غمرة الحياة وزخرفها يشق الإنسان طريقه بآماله وآلامه، فمنذ أن خرج للدنيا وهو يكابد الحياة ويصاولها، بين فرح وحزن، بين سعادة وشقاء، يوم لك ويوم عليك، هذه هي حال الدنيا، وهذا حال الناس فيها، يروى أن أحد علماء السلف سأله ابنه متى يجد المؤمن السعادة؟ فقال عند أول خطوة يخطوها في الجنة.
*، هذه هي النتيجة، إنها الحياة الطيبة، قال بعض العلماء: المراد بالحياة الطيبة الحياة التي تكون في الجنة إذ هناك حياة بلا موت، وغنى بلا فقر، وصحة بلا سقم، وسعادة بلا شقاوة، وقال غير واحد: هي في الدنيا وأريد بها حياة تصحبها القناعة والرضا بما قسمه الله تعالى وقدّره، وحياة تصحبها حلاوة الطاعة.
* ، إنه الطريق الذي يسلكه البشر كل البشر، كل المخلوقات من دار المفر إلى دار المقر، من الدنيا الدنية إلى الحياة الأبدية.
كل ابن أنثى وإن طالت سلامته
يوماً على آلة حدباء محمول
* القصص، من تأمل الموت علم اليقين أن الحياة الدنيوية لا قيمة لها، وأن دار الدنيا هي دار العمل، دار الاجتهاد في طاعة الله تعالى وابتغاء مرضاته، وأن هذا هو الباقي من الفاني.
ألا إنما الدنيا غضاضة أيكة
إذا اخضر منها جانب جف جانب
فلا تكتحل عيناك منها بعبرة
على ذاهب منها فإنك ذاهب
|
نشأ الشيخ سعد أبو حبيب وترعرع في كنف والده الشيخ العلامة عبدالعزيز أبو حبيب الشثري - رحمه الله -، ومن قرأ سيرة الشيخ عبدالعزيز وتعامل مع الشيخ سعد يجد القواسم المشتركة، فقد أخذ عنه التمسك بالدين ومراقبة الله تعالى، وحب الخير، والأخلاق الرفيعة، والتواضع، ومساعدة الآخرين والسؤال عنهم، ومشاركتهم أفراحهم وأحزانهم، أخذ عنه الكرم فلا يرى أحداً إلا دعاه مهما كان منصبه أو جاهه أو نسبه.
لقد رزق الله تعالى أبا عبدالله خلقاً عالياً يخجل الإنسان من نفسه حين يجلس معه أو يحادثه، فمع كبر سنه تجد اللسان الحلو والوجه البشوش والعبارات الطيبة والسؤال عن الصغير والكبير، حتى مع الأطفال يقربهم إليه ويمازحهم بالكلمة الطيبة، يقول المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام: «إن من أحبكم إليّ وأقربكم مني منزلاً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً».
إذا رأيته ترى رجلاً وقوراً، لا يتحدث إلا بشيء مفيد، فيه من التواضع للآخرين ما تعجز عن وصفه، لقد حباه الله نفساً خفيفة وكأنه شاب في العشرين من عمره، وقد لمست ذلك حين أزور المزرعة في وادي لبن، والمناسبات فيها كثيرة جداً فقد كان يباشر موائد الطعام، بل كان يساعد في تقديم الطعام للضيوف، وترتيبه، هذا مع كبره في السن ومعاناته مع المرض.
كان - رحمه الله - رجلاً عابداً، له ما يقرب من أربعين سنة وهو يذهب إلى مكة المكرمة في شهر رمضان، فقبل دخول الشهر يذهب إلى الطائف فإذا أعلن دخول شهر رمضان نزل مكة وأدى العمرة، ولا يرجع إلا بعد عيد الفطر، وفي كل ليلة يقدم وجبات الإفطار للصائمين ويتناول معهم العشاء.
ذكر لي أحد الإخوان وبه أختم المقال أنه في رمضان 1423هـ أعلن أن ليلة الثلاثين من رمضان هي ليلة عيد الفطر، وأراد - رحمه الله - أن يطوف الوداع، فقال له أحد أبنائه وقد رآه متعباً إن المطاف فيه زحام شديد، وإن للشيخ عبدالعزيز بن باز - رحمه الله - فتوى بأن العمرة ليس فيها وداع، فقال: أنا منذ حياة والدي وأن أوادع، سأذهب أطوف الوداع فربما لا آتي هذا المكان مرة ثانية. وها هو يرحل - رحمه الله - رحمة واسعة وأسكنه فسيح جنته، وألهم ذويه الصبر والسلوان، وأخص بذلك إخوانه وعلى رأسهم معالي الشيخ ناصر، وأبناءه البررة، وهم مثال لبر الابن بأبيه، فرحمه الله وجمعنا به في دار كرامته، في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
|