العملية الفدائية الأخيرة التي قام بها أحد المنتسبين لحماس في القدس الغربية، هي في تقديري عملية «انتحارية» سياسية، كان يتمناها شارون، واليمين المتطرف الإسرائيلي، أكثر من أي طرف آخر. هذه العملية عندما تقرؤها قراءة سياسية متفحصة، على أساس إلى أي الجانبين تتجه إيجابياتها، ستنتهي الى انها تصب في مصلحة الحكومة الاسرائيلية القائمة أكثر من تحقيقها لهدف النضال الفلسطيني التي قامت واستمرت هذه العمليات من أجله.
فالجميع يتفق، بما فيهم حركة حماس نفسها، ان هذه العمليات إذا لم توظف سياسياً، بالشكل الذي يضغط على إسرائيل، هي في النتيجة لا تعدو أن تكون سوى عمليات انتحارية مجانية في أفضل تقدير، وتخدم الإسرائيليين في أسونها.
وحسب رؤيتي لمسار وتطورات الصراع في المنطقة سياسياً فإن هذه العملية هي من النوع الثاني نظراً لمقتضيات اللحظة التاريخية التي نتعايش معها الآن، والظروف الموضوعية التي نشأت بعد قبول الفلسطينيين والاسرائيليين معاً لخطة «خارطة الطريق»، واتفاق الفصائل الفلسطينية مع السلطة عليها بقبولهم لمبدأ الهدنة. فجاءت هذه العملية في توقيتها وطريقة تنفيذها، لتعطي شارون ذريعة قوية لأن يخلط الاوراق من جديد، ويعيد مسار العملية السلمية الى نقطة الصفر، أو إلى لحظة ما قبل الاتفاق على خارطة الطريق. وهذا ما أقدمت عليه الحكومة الاسرائيلية فعلياً عندما اوقفت كل ما يتعلق بمحادثات السلام، وتخلت علناً عن كل إجراءات تكريس تنفيذ الخطة على الارض، والتي كان من المفروض على الجانب الاسرائيلي تنفيذها. وكذلك، وهذا مؤشر في غاية الدلالة، عندما عمقت الشرخ باغتيالها المهندس إسماعيل أبو شنب، القيادي الثالث في التشكيل السياسي لحركة حماس، وأحد القياديين المعتدلين في الحركة، والذي كان له دور رئيسي في إقناع الفعاليات السياسية في حماس بقبول الهدنة الاخيرة مع الاسرائيليين.
نظام اسرائيل الذي يتولى مقاليد السلطة فيها لا يريد السلام. هذه قناعة تكاد ان تكون من القناعات النادرة التي يتفق عليها الفلسطينيون بجميع توجهاتهم وطيوفهم السياسية والإيديولوجية وبالتالي فان اي ممارسة تضطر هذا النظام الى الاذعان للسلام، والتوجه الى التخلي عن تصعيداته العسكرية على الأرض، حتى وإن كان الثمن باهظاً، فان ذلك من شأنه كنتيجة توريط اسرائيل اكثر في عملية السلام، وهو الامر الذي تتهرب من التعامل معه بجدية تحت شتى الذرائع والاسباب، ويأتي في مقدمتها ذريعة «أمن إسرائيل»، التي لا يفتأ الخطاب السياسي الإسرائيلي من تكرارها بمناسبة ودون مناسبة، غير أن الرؤية السياسية لحركة حماس، يبدو انها ما زالت تتعامل مع قضية مواجهة إسرائيل بتقليدية وجمود، وبعيداً عن مواكبة المعطيات الجديدة، والمتغيرات السياسية العميقة التي تكتنف الصراع، وبالذات بعد أحداث 11 سبتمبر، والمزاج العالمي السلبي الذي أفرزته تلك الأحداث البغيضة، والتي خلطت أوراق وغايات الارهاب بأوراق وغايات العمليات الفدائية. الأمر الآخر، والذي ينضوي تحت الأجندة السياسية لشارون، هو اظهار رئيس الحكومة الفلسطينية الجديد محمود عباس «أبو مازن» بمظهر الرجل الضعيف، غير القادر على ضبط الحركات السياسية الاخرى داخل الطيف السياسي الفلسطيني بالشكل الذي يؤهله لقيادة عملية السلام، واعطاء الضمانات للجانب الاسرائيلي بتنفيذ ما يتم الالتزام به على طاولة المفاوضات وهذا بصراحة ما حققته عملية القدس الغربية الاخيرة لأجندة شارون.
واذا اخذنا ذلك في الاعتبار، واخذنا كذلك ان راعي السلام، أو بصورة حيادية ما يفترض انه راعي السلام في المنطقة، الرئيس الامريكي بوش، هو الآن على مشارف الدخول الى موسم الانتخابات الرئاسية، والتي يراعي المتنافسون فيها قوى الضغط الاسرائيلية الفاعلة هناك، بما فيهم الرئيس بوش نفسه، والذي يتطلع الى انتخابه لفترة رئاسية ثانية، نعرف الى اي مدى ستضعف مثل هذه العمليات غير المحسوبة سياسياً الموقف الفلسطيني، وبالذات عندما سيضطر الجانب الامريكي، وهو الذي بإمكانه منفرداً الضغط على إسرائيل، الى اتخاذ مواقف متماهية مع الموقف الاسرائيلي اكثر من أي وقت مضى نتيجة لهذه العمليات الدموية. وهذا في رأيي ما سيبقي المنطقة في حالة اللا حرب واللا سلم التي هي تحديدا غاية وهدف الحكومة الإسرائيلية الحالية بكل تأكيد. والسؤال: هل يدرك من اتخذ قرار العملية الأخيرة هذه الأبعاد؟. أشك في ذلك كثيراً.
|