لو لم تكن هناك ثورة المعلومات والاتصالات التي ترتكز على تطور تقني متسارع لا يكاد يهدأ من الركض والتقدم، لما كان لمصطلح العولمة هذا البريق الذي شع على اقطار الدنيا فجعلها كقرية واحدة تتقاسم احداث العالم لحظة وقوعها. وتمكنت ثورة الاتصالات من اختزال الزمن وحكمت على المسافة بالموت. لم يتنبه العرب لاختزال الزمن فهم يعتبرونه فسحة لا تنتهي وعاملاً غير ذي بال، ولكنهم فوجئوا بموت المسافة التي كانت تمثل لهم حصناً منيعاً ضد الآخر عندما رضوا، وربما قنعوا، بالتقوقع داخل شرنقة الخصوصية التي ابتدعوها ظناً منهم، وبعض الظن اثم، انها تقيهم شر الآخر وكأنهم أمنوا شر أنفسهم وباتوا في مأمن.
لقد كانت ثورة المعلومات والاتصالات الوقود السحري الذي دفع بالعولمة إلى صدارة اهتمامات الانسان في العصر الحديث فاعتبرها نهجاً يرسم معالم هذا العصر ويحدد معايير المستقبل والبقاء فيه. وظن الانسان، كما ظن فوكوياما، ان العولمة كتبت السطر الاخير لتاريخ العالم الماضي، وان ثمة حقبة جديدة بزغت لتكون عالم المستقبل الذي تحاول العولمة تشكيله وتحديد معالمه. واذا لم يكن اختزال الزمن مهماً، فهل لا يثير فينا موت المسافة الاهتمام؟ واذا كان ارتباط هذه الظواهر بموجة العولمة القادمة أمراً حتمياً، الا يستحق هذا الامر وقفة موضوعية لتدارس موقف الامة العربية من العولمة؟
ارتكز موقف العرب من العولمة على ضعفهم وانحسار مكانتهم بين الأمم بعد ان تنازلوا عنها طوعاً بانصرافهم عن ركب الحضارة وانغماسهم في تمجيد ذات تخلت عن مقومات الريادة فأصبحت تجتر ماضيها وتغلفه بعبارات منمقة لم يعرها العالم اي اهتمام لانها فقاعات لا تقوى على الصمود في زمن يحتكم الى الواقع. تنازل العرب عن الريادة وعندما أخفقوا في اعادتها اتهموا الآخر بالمؤامرة ونبشوا التاريخ وبرعوا في ترديد مفردات الماضي العريق والتراث والخصوصية، فضعف الطالب والمطلوب وتواروا عن الانظار.
هذا الواقع المرير خلق هذا المناخ المتراخي من فوبيا العولمة، فانبرى العرب لمهاجمتها ولم يفلحوا لأن أسلحتهم مهترئة وحجتهم ضعيفة. وبهتوا امام موت المسافة فأصابهم الهلع وأفقدهم القدرة على محاسبة الذات وتلمس اسباب الاخفاق وتجاوزه وتدارك ما مضى والتطلع الى المستقبل بروح وثابة تعترف بالخطأ ولكنها ترفضه، وهذا هو مربط الفرس.
العولمة حقيقة انسانية توافقت مع تكوين النفس البشرية وأقرتها الشرائع الربانية وأصّلها الشرع الاسلامي في نصوص واضحة لا تقبل التشكيك. العولمة حقيقة انسانية وان تمثلت في اشكال سياسية او اقتصادية او فكرية. خلق الاشكال هو وسيلة الطرف الاقوى لفرض قوته. ورفض الاشكال هو المصيدة التي استسلم لها الطرف الاضعف فخارت قواه. والحكمة، وهي ضالة المؤمن، ان تتعامل مع الواقع وتفرض كلمتك ورأيك فيه ولا يكون ذلك بالرفض والتخاذل والانزواء.
العولمة واقع يجب أن يعيه العرب ليتمكنوا من العيش والتفاعل معه. وهذا خيار حتمي يحتاج الى قوة ارادة. والمؤمن القوى خير من المؤمن الضعيف. وبعد ان فوجئنا بموت المسافة.. هل نتنازل عن الحياة؟ سؤال تبدأ خيوط الاجابة عنه من الانسان نفسه. والحكمة ان يبدأ الانسان بنفسه قبل ان ينتظر الآخر. وهذه هي الحلقة المفقودة التي لن يكتمل عقد المستقبل بدونها، والعبرة بالنهاية.. أو ليس للمستقبل نهاية؟
|