الحروب الخليجية المتواصلة، بكل ما فيها من عنف ودموية ومجانية، وخروج على الشرعية، وتطاول زمني، أتى على كل المقدّرات، ونتج عنه انكماش وديون وبطالة وارتباك.
- وتفكك الاتحاد السوفييتي، ودخول أشلائه في حروب عرقية وطائفية شرسة، تعاقب على تغذيتها المنتفعون، وما تبع ذلك من تغير في التركيبة السكانية، وتبدل في الخطط السياسية، وظهور القطب الواحد بكل غطرسته.
- وأحداث الحادي عشر من سبتمبر، وجرح كبرياء الولايات المتحدة، واهتياجها، وأخذها الظاعن والمقيم، ومباشرتها للحروب في ظل تخلف الحلول السياسية.
- والإرهاب «الشاروني» الذي فجر الأوضاع وبورك من قبل رعاة السلام.
- وإسقاط الحكومتين «الأفغانية» و «العراقية» من خلال عمليات عسكرية متوحشة، لا تملك غطاء شرعياً، وما نجم عن ذلك من فراغ دستوري، وتكتل عرقي وطائفي، ومواجهات متصاعدة، حولت القطرين إلى مستنقع موحل، ألجأ امريكا إلى الاستعانة بمن ادارت ظهرها لهم عند اتخاذها لقرار الحرب.
- واللعب الكونية الكبرى التي غيرت «الاستراتيجيات» والاحلاف والقواعد العسكرية، وخلطت الاوراق، وهمشت الهيئات والمجالس الأممية، وجعلت العالم الثالث دولة بين الأقوياء.
- والأحداث المصيرية التي تعاقبت، واستبدلت الذي هو أدنى بالذي هو خير، من اعتراف وتطبيع وهرولة.
- والتصدعات الوطنية، والاختلافات الفكرية، وفحيح الطائفيات الافعاوي، والهجمات الإرهابية الهمجية المتلاحقة، وتوفر الأجواء الإعلامية والمعرفية من قنوات ومراكز معلومات تهرف بما لا تعرف، وتزرع الشك والارتياب، وتثير الفتن.
- والغفلة المعتقة في الشارع العربي، ومسايرة الأعداء في الافتراء وتولي كبر الإفك على المصلحين والدعاة والناصحين.
كل هذه الأشياء التي جاءت عبر إجراءات ابتسارية إكراهية متلاحقة لا يمكن أن تمر بسلام، ولا يمكن أن ينجو من وضرها احد، ولا يمكن أن تظل اوضاع الدول التي اتخذت أراضيها مسرحاً للاحداث كما كانت من قبل. وإذ يكون التغيير حتمياً، فإن على الاطراف المعنية ومسارح الأحداث والحوادث تعميق التفكير ودقة التدبير، ومن الخير أن يكون التغيير بيد صاحب الشأن، لا بيد غيره، على حد:- «بيدي لا بيد عمرو» وأحسب أن تدخل الأقوياء في الشئون الداخلية وإكراه الشعوب على التخلي عن الثوابت لن يحقق التغيير المطلوب، وإنما يؤدي إلى التدمير، فالشعوب عصية الانقياد، وهذا «العراق» يتأبى على الوجود الأجنبي، على الرغم من أن خروجه قبل ملء الفراغ الدستوري يعد كارثة عربية إسلامية، وإسقاطه للنظام إزاحة «لدكتاتوري» اناخ على الصدور بكلكله، فهو في ويل من الوجود وويل عليه، على حد:- «وقع السهام ونزعهن أليم».
ومن تصور أنه يملك جبلاً او مغارة تعصمه من طوفان الفتن، فقد وقع فيما وقع فيه «ابن نوح»، حين قال له والده الذي يعرف اخذ الله القوي العزيز {(وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ) (هود:42) )قَالَ سَآوي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ) (هود:43) } ولأن نوحاً عليه السلام يعرف أن وعد الله حق، فقد توجه إلى ربه: {(وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ) (هود:45) } . ولما لم يكن يعرف من علم الغيب شيئاً، فقد وجهه إلى الحق {قّالّ يّا نٍوحٍ إنَّهٍ لّيًسّ مٌنً أّهًلٌكّ إنَّهٍ عّمّلِ غّيًرٍ صّالٌحُ} . والمؤلم والمخيب للآمال أن بوادر الواقع العربي لا تنفك تعيد مقولة الولد الشقي {سّآوٌي إلّى" جّبّلُ يّعًصٌمٍنٌي مٌنّ المّاءٌ } فكل دولة عربية تتصرف وحدها، دونما تنسيق بين وجهات النظر، ودونما عمل رشيد يحدو إلى اتخاذ موقف جماعي، ينقذ ما يمكن إنقاذه، او يسهم في إيقاف التدهور، وكأن الدول العربية في معزل من الماء، والماء ينهمر من فوقها، ويتدفق من تحت ارجلها، مفككاً تماسكها الوطني، ومخلخلاً وحدتها الفكرية، ومحيياً فيها نعرات الإقليمية والعرقية والطائفية، والخليون يهدهدون أنفسهم بجنون العظمة الذي خلفه لهم «عنترة» و «عمرو بن كلثوم» و «المتنبي» وما من موقف واقعي جماعي يعرِّف الأمة بواقعها، ويوقف نزيفها، تتبناه «الجامعة العربية» او مبادرة يطلع بها «مؤتمر قمة طارئ»، فكل دولة لها شأنها الذي يغنيها، ولها مشاكلها الداخلية والخارجية، وثاراتها مع جاراتها، ومصالحها المتعارضة، واحلافها المتناقضة، وأوضاعها التي لا تسمح ولو باللقاء التشاوري، فضلاً عن موقف جماعي، يعيد للأمة شيئاً من هيبتها، ويحولها إلى شريك مؤثر في القرارات والاحداث، وهذه الترديات المؤلمة تذكر بمقولة الشاعر:
ويقضى الأمر حين تغيب تيمٌ
ولا يستأمرون وهم شهود
|
والأحداث الجسام التي يمر بها العالم كله، وتنفذ فعالياتها على مسرح الدول النامية، لا يمكن أن تمر بدون ثمن باهظ التكاليف. ومن تصور أنه قادر على معايشتها، دون تحرف لنجاة، او تحيز لتدبير عاقل رشيد، عرضته الفتن العمياء لانهيارات اقتصادية، واختلال أمني، ومع أن احداث الساعة كأهوال الساعة، تذهل فيها كل مرضعة عما ارضعت، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى، وما هم بسكارى، الا أن الإبقاء على رسيس الماء الذي يبل الصدى في اللحظات الحرجة يتطلب التحرك قدر الطاقة، والله لا يكلف نفساً الا وسعها، وتفادي الرياح العواصف بالانحناء المؤقت، حتى تهدأ العاصفة. ولن يتقي الضاحون هوج الأعاصير الا بالاعتصام بحبل الله، وتبادل الآراء مثنى وثلاث ورباع، عبر الرحلات «المكوكية» والتنازلات المعقولة والتعاذر والعفو والصفح، وتناسي كل ما مضى من المآسي، فما عاد الوقت وقت حساب وجزاء، وإن كنا تمنيناه من قبل، لتصفية القضايا أولاً بأول، أما وقد تركت الامور فوضى لا سراة لها، حتى استفحلت، واستعصى الفكاك منها، فلا اقل من العفو عما سلف، واستئناف حياة جديدة، تفعل برفق، ولا تنفعل بصلف، وتساند بصدق ولا تدابر، وتدعم بأريحية ولا تخذل، وتفقه الواقع بوعي ولا تغامر عن جهل.
ولما كان الواقع العربي المنهك، والواقع العالمي المتوتر، والمطامع الغربية الجائرة، والنفوذ الصهيوني المتغلغل، والتخاذل العربي المؤلم، والخوف والترقب بين الشعوب والحكام، والتطرف الفكري المتناقض بين اصولية موغلة بعنف، وعلمانية مندفعة بوقاحة، لا تمكن من اتخاذ موقف «استراتيجي» ناجز، ولا موقف «تكتيكي» مرحلي، كان لابد من تفكير سليم، وتصرف حكيم، متوفراً على حلم «معاوية» ودهاء «عمرو» اللذين تفاضلا في التصرف الحكيم في وجه الازمات، بحيث قال عمرو: ما دخلت في شيء الا وأحسنت الخروج منه، وقال معاوية: ما دخلت في شيء الا وعرفت من قبل كيف اخرج منه.
والممسكون بأزمة الامور سياسياً وعسكرياً وفكرياً أحوج ما يكونون إلى شعرة معاوية، وإلى ما يحبه الله من الحلم والأناة والتبصر والتدبر والتشاور. فالأمة العربية تعيش حالة من الضعف والهوان والتفكك، لا تستطيع معها اجتياز الوضع بشكل جماعي. ولكيلا تزداد الاوضاع ارتكاساً، فإن على اقطارها ان تتقي الله ما استطاعت، وأن ترضى باليسير، وان تدفع بالتي هي أحسن، لتوفر لنفسها اجواء ملائمة لتصحيح الاخطاء، وتدارك بعض ما فات، وأن ترتد الى الداخل لإصلاح ذاتها، قبل أن تفكر في إصلاح ذات البين، مطّرحة الخطابات العاطفية، والدعاوى الكاذبة، والتطبيل الزائف، والتصنيم المقيت، مقلصة القول التحريضي، متوسعة بالفعل التوفيقي، وتخدير الشعوب والضحك على الرأي العام. استنفدا كل اقنعتهما، ولم يبق الا تمزيق آخرها، ومواجهة الشعوب بالحقائق المرة، ومناشدتها تقبل قدرها بالصبر والسلوان واحتساب الاجر عند الله، والتفكير الجاد ببدء رحلة العودة، اذ لم يكن هناك بقية من تقيّة، ومواجهة الامة بما هي عليه خير من مخادعتها. واذ تلوح القوى المتغطرسة «بحقوق الانسان» و «حرية المرأة» و «بالاصلاح الدستوري» وبـ «الديموقراطية» و بـ «تغيير المناهج» و بـ«الاعتراف» وبـ«التطبيع» وبـ«محور الشر» وبمقولة:« اذا لم تكن معي فأنت ضدي» وتفسر «الارهاب» و «التطرف » وفق رؤية خاصة فإن على الأمة العربية أن تلتف حول بعضها، لا من أجل المواجهة، فالحرب باهظة التكاليف، كما علمنا وذقنا، ولكن من أجل الحيلولة دون الاختراقات الصهيونية، فلقد تجرعت الأمة العربية الممزقة مرارة التطلعات الصهيونية، التي ما فتئت تؤكد على إذلال العرب نفسياً بعد سحقهم عسكرياً، وإصابتهم بالإحباط الشامل. وعلى الأمة أن تعرف أنها صاحبة حضارة مغايرة، وثقافة مغايرة، وتاريخ مغاير، وأن لكل حضارة ثوابتها ومتغيراتها، وعليها في ظل هذه الظروف أن تعمل في القواسم المشتركة ما أمكنها ذلك، وأن تبادر مشاريعها الإصلاحية وفق ظروفها وإمكانياتها واسلوب ممارستها بالحل الناجز او المرحلي، بحيث تحول دون تفكك الجبهة الداخلية، تحت ضربات من لا يرعى فيها إلاً ولا ذمة. وفي ظل هذه الظروف المدلهمة، لم يبق للقادة الا الشعوب، فهم الرهان الوحيد، وبدون الجبهة الداخلية لا يمكن تجاوز المرحلة المعقدة، وما لم ينتزع القادة التأييد والثقة تفلتت الأمور، وانفلت العقد، وانغمست الأمة في حمامات الدم، وهي الفرصة الذهبية التي ترقبها الصهيونية العالمية، ويتطلع إليها اعداء الشعوب، وما العمليات الإرهابية الغنوصية التي لا تُعرف اهدافها الا بوادر نجاح للمؤامرة الكبرى، لنسف الأمن والاستقرار الذي تنعم به بعض الشعوب العربية.
وواجب الشعوب المستهدفة أن تعي خطورة المغامرة والأثر السيئ لاختلال الأمن والموت الزؤوم من جراء الفراغ الدستوري، وما أحكم واعلم رسول الهداية حين ندب إلى قتل من يأتي إلى الامة وامرها على رجل منها، والفتنة اشد من القتل.
إن على الشعوب أن تحمي الثغور، وأن تقطع دابر الخلافات الداخلية، وأن تضع يدها في يد قادتها، تمحضهم النصح، وتبصرهم في الأمور، تحمي ساقتهم، وترود لهم، لا تكذبهم، ولا تخفي عنهم الحقيقة، فالزمن رديء لا يحتمل أي هزة، فكل شيء يترنح، ولكل شيء قاب قوسين أو أدنى من الفتن العمياء، وعليها أن تصلح نفسها، وأن تصنع إنسانها، وأن تستثمر خيراتها، وأن تتقي الظلم ومنازعة الأقوياء حقهم، وعلى الحكومات أن ترفع الظلم عن شعوبها، فالله الذي حرم الظلم على نفسه، وجعله بين الناس محرماً، لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وهو قد اقسم بعزته وجلاله على نصر المظلوم ولو بعد حين، والدول التي تظلم من دونها والحكام الذين يظلمون شعوبهم على موعد مع اخذ الله الأليم الشديد. ولأن العالم العربي يمر من عنق الزجاجة، واللعب الكونية قد فعلت فعلها في تفرق الكلمة، وتشتت الآراء، وانفراد كل قطر باتخاذ القرارات المصيرية، دون تنسيق، ودون استشارة، ودون استخارة، فإن الوقت عصيب والوضع رهيب، وعلى الحكام مراجعة القرارات، وعلى الشعوب الركون إلى الهدوء، فما عاد الوضع قادراً على احتمال مزيد من الاختلاف والتمزق.
|