Sunday 24th august,2003 11287العدد الأحد 26 ,جمادى الثانية 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

والدة شهيد فلسطيني: حرمت من طقوس الوداع لهذا الحبيب والدة شهيد فلسطيني: حرمت من طقوس الوداع لهذا الحبيب

* رام الله نائل نخلة:
«ليس غريبا ان نلعق جراحنا.. وما هو بالحدث الجديد ان نكتب في ارض الرباط حكاية المجد والشهادة.. اجل فإننا نتحدث عن مصابنا بكل رباطة جاش وصبر فهذا اضحى الوضع الطبيعي المألوف لهذا الشعب الفلسطيني المضحي المعطاء.. لم نعد كغيرنا من شعوب الارض فلم تعد تهزنا النوازل ولا تفت بعضدنا المصائب إن جاز لنا أن نسميها بالمصائب، فإن يفجع الواحد منا بفقد عزيز ما هو إلا تجسيد لخير إراده الله لنا بأن يجعل عزيزنا شهيدا في سبيله ليرتقي في السماء كما الملائكة، طاهرا راضي النفس قرير العين مطمئن القلب هادئ الجوارح، وجهه يطفح بالنضارة والجمال وقلبه ينبض بالشوق إلى الله ورسوله وإخوانه الشهداء،الذين ساروا على نفس الطريق الذي كان قدرا لهذا الشعب، طريق العزة والكرامة والتمكين والذي سيفضي إلى النصر المبين بإذن الله أو نيل الشهادة وأعلى الدرجات وجنة عرضها الأرض والسموات.
أجل بت أحس أنه على كل أم يجب ان تجهز أبناءها للشهادة والجهاد لأنها بذلك تدخرهم عند الله تعالى، فالزمن الذي جاء بالخنساء وأم عمارة المازنية لن يبخل أن يجود بمثلهما، وان يضربن أروع الأمثلة في الجهاد والتضحية في سبيل الله تعالى.
هذا ما ترويه والدة الشهيد مراد عوايصة «أم محمود» وقالت إنها خطت هذه الكلمات وسطرتها عن قصة رحيل فلذة كبدها مراد إلى خالقه وبارئه وأن تكون وفاء منها لذكراه الحية في قلبها، ولتفضح بها ذلك الوجه الوحشي البشع للصهاينة الذين لا يرقبون فيهم إلاً ولا ذمة، ولتميط اللثام عن وجه الصهاينة الذين ما عرف التاريخ مثلهم في المكر والخبث ووأد الإنسانية وتعذيبها بأبشع الطرق والوسائل.
اجل خطت هذه الكلمات بنبض قلبها المبارك لحبيبها وإبنها وفلذة كبدها الذي غادرها جسدا ولكن روحه تظللها، قائلة: «هو ابني الذي أحببت، وصديقي الذي عهدت، ولأنك يا حبيبي جزء من روحي وقلبي كتبت قصتك لتكون شاهدا على ظلم الصهاينة وجبروتهم»، فكيف كان الرحيل.. وكيف كان الوداع.. ومتى قرعت أجراس الرحيل.. متى كانت الحكاية تختم فصولها الأخيرة يا مراد يا نبض الروح المسافر للجنة.
وعندما كان آذار يودع يومه الأخير كانت الأم تودع ولدها الحبيب. أجل كانت تودعه وتزفه إلى الحور العين، وكما بقيت فلسطين بمدنها وقراها ومخيماتها يتم اغتصابها للمرة المائة بعد الألف، كانت رام الله الحبيبة هي الضحية التالية لهذا المغتصب الصهيوني الجبان، وكما تعرفون فالغاصب دوما يظل حاقدا جبانا ظالما بشعا مقيتا، والمغتصَبة جميلة فاتنة طاهرة عفيفة، فرغم اغتصابك يا حبيبتي تبقين العذراء يا رام الله كأخواتك الفلسطينيات لأنكن العذراوات الوحيدات في زمن الفجور والسفور.
ومن هنا نبدأ الحكاية
في آخر ليلة من شهر آذار بعد اجتياح مدينة رام الله اقتحم الجيش الاسرائيلي عمارة الوحيدي الساعة الرابعة والنصف يوم السبت بتاريخ 29/3/2002، وداهم المنازل منزلا منزلا، وعندما دخلوا منزل أبو محمود عوايصة كان جميع أفراد الاسرة نائمين وطرق الجنود الباب بوحشية فصحت الزوجة والزوج من النوم مفزوعين لفتح الباب فدخلوا البيت كالوحوش، واعتقلوا كل من بداخله من رجال ولم يبق في المنزل إلا الزوجة وأولادها الصغار رهام ومؤيد، وبعد أن اعتقلوا جميع الرجال في العمارة اخذوهم إلى الطابق الخامس حيث ان العائلة كانت تسكن في الطابق الرابع، وفي حوالي الساعة العاشرة صباحا جهزت الأم الفطور وعملت الشاي على امل أن يرأف الجيش بحالتها، ولكن بعدها خرجت لهم فرفضوا ان يأخذوا الفطور إلى زوجها واولادها وجيرانها الذين اعتقلوهم.
وفي تمام الساعة الواحدة والنصف ظهرا عاد ابنها مراد إلى المنزل وعمه جمال، وبقي عمه ناصر وعمه شفيق ووالده وشقيقه مهند مع جميع شباب الحي الذين نقلوهم إلى سجن عوفر، بعد أن ذلوهم، فقد ربطوهم جميعا في حبل واحد وعصبت أعينهم بقطع من القماش عندما تم اقتيادهم إلى المعتقل.
وفي صباح اليوم التالي أي يوم الأحد استيقظ مراد من النوم وحضرت له الأم الفطار، وقال للأم هيا يا أمي نفطر سويا، ولكنها رفضت وقالت له ان يفطر مع إخوته إلهام ومؤيد وخالته وأولادها الذين مكثت معهم في تلك الليلة، لأن أم مراد كانت حزينة على ابنها مهند الذي طلب منها أن تطلب من الجيش أن يأخذ الفطور إلى الشباب في الطابق الخامس ولكن الجيش رفض، وبعد أن تناول الفطور طلب مراد من أخته رهام أن تعصر له البرتقال، ثم قالت له الأم بأن يذهب إلى غرفة أخيه محمود يشرب البرتقال ويسمع المسجل خوفا من أن يراه الجنود من النوافذ التي كان ينظر منها، ولكنه رفض وبقي عند أمه في المطبخ وقال لها، لماذا انت ورهام واقفات، قالت له نحن لا يهم لأننا نساء فقال لأخته هازئا أعطيني منديلا لكي البسه على رأسي حتى يفتكروني بنتا، وبعد ذلك طلبت الأم من مراد أن يبدل ملابسه خوفا من أن يأخذه الجنود مرة أخرى، ووافق وطلب من أمه ان تحضر له الملابس فأعطته ثلاثة بلايز وجكيت صوف، ولبس بنطلون الجنز فوق بنطلون البجامة وأراد أن يخلع الجربان فقالت له الأم لا تبدله البس فوقهن فقال «بالك» وعندما جهز مراد نفسه أخذ يحسس على صدره وهو يقول يا إلهي كل هذا يا أمي ارتديه؟ لا تخافي عليّ من الجيش.
لحظات سمعوا أن الجنود يداهمون ويفتشون منازل العمارة منزلا منزلا، وجاء دور الطابق الرابع الذي يسكن فيه أبو محمود واخوته، كل واحد في شقته، داهموا منازلهم وجاء دور منزل ابو محمود، وخبطوا على الباب وكأنهم يخبطون في مهدات، وفتحوا لهم الباب ودخلوا حوالي سبعة جنود وحشروا الأم واولادها مؤيد ورهام في غرفة الصالون، وأخذوا يقلبون ويفتشون ويعبثون في أنحاء المنزل لم يبق ركن في المنزل إلا دمروه وعبثوا به، والأم موجودة في الصالون تسمع ولدها مراد وهو يقول: ياما بصوت مرتفع يصرخ ألماً من الضرب المبرح فصاحت الأم وفتحت الباب لكي تخرج إليهم، فدفعها أحد الجنود إلى الداخل، ومرة أخرى صاح مراد بصوت حزين: أي أي أي والمرة الثانية فتحت الباب وخرجت إليهم ودفعها الجندي مرة أخرى واغلق الباب، والطفلان رهام ومؤيد يصرخان ويتألمان ويبكيان حسرة على مراد.
وصاح مراد مرة أخرى وهو يقول للجندي لا تضربني على رأسي، أنا عامل عملية في رأسي ويوجد في رأسي بربيج.
الأم عندما سمعت مراد يقول هكذا لم تستطع أن تضبط أعصابها فتحت الباب بسرعة فقال لها الجندي أنت امرأة لا تدعيني أدفعك أكثر، فقالت: أتوسل إليك أن تجعله يكف عن ضرب ابني لأن مراد عمل ثلاث عمليات في رأسه مع انها لم تكن تريد ان تخبرهم بهذا إلا ان مراد اخبرهم بذلك، ولكنهم لم يبالوا بمشاعرها وامومتها وبعد ان ذهب الجندي جاء الضابط إلى الأم وسألها هل تريدين ان يعيش ابنك او يموت أمام عيونك فقالت له: ارجوك دعه يعيش فقال: ابنك «حماس ام فتح ام جهاد اسلامي» فاجابته ابني صغير ويدرس في المدرسة ولا ينتمي لأي تنظيم سياسي. وبعدها طلب منها هويتها ففرحت لترى مراد وإذا بمراد منهك من الضرب وبيتها محطم تماما، فقالت لهم: حرام ما تفعلونه بنا فأجاب احد الجنود: هذا حرام أما حيفا ليس حرام وقصد بذلك عملية حيفا الاستشهادية، واخذوا مراد معهم إلى الطابق الخامس وحذروا الأم من استعمال الهاتف او حتى الخروج من البيت وبعدها توجهوا إلى الطابق الخامس، وبدأت الأم تهوّن على ابنائها الاطفال ولكن هي من كانت تحتاج إلى من يهوّن عليها.
كيف استشهد مراد
اما بالنسبة لحادثة وطريقة استشهاد عوايصة فكانت كالتالي: عندما اعتقل ذهبوا به إلى الطابق الخامس في نفس العمارة التي يسكن فيها، حيث كان يتمركز جنود الاحتلال وكانوا يستخدمون هذا الطابق بمنزلة معتقل مؤقت، وكان يتواجد به عدد من المعتقلين، وكان الجنود يومها في حالة من الاستنفار والبربرية والوحشية والنازية، حيث قاموا بضرب وإهانة كل المعتقلين وضربوهم ضربا مبرحا، وكان مراد بينهم.. طلب مراد وصاحبه رشاد من الجنود الذهاب إلى الحمام قال لهم الجندي واحد تلو الآخر تذهبوا إلى الحمام، فأخذ الجنود رشاد أولا وهناك في الطابق الثالث يوجد شقة فارغة من السشكان والأثاث، استفرد الجنود برشاد وضربوه ضربا مبرحا وصلت الحالة برشاد الى درجة أنه لا يستطيع الوقوف على قدميه، وعندما ارجعه الجنود رآه مراد في هذه الحالة فتراجع في داخله عن الذهاب إلى الحمام خوفا منهم، وقال الجندي لمراد هيا لتذهب إلى الحمام لقد جاء دورك فقال مراد لا أريد الذهاب إلى الحمام، فقال له الجندي أنت طلبت ويجب عليك أن تذهب، فأخذه بالقوة وأنزله إلى شقة جارتهم أم سعيد في الطابق الثالث وهناك ادخلوه لشقة فارغة حيث كانت مسرحا لإشباع غرائزهم في ضرب وتعذيب المعتقلين، والله أعلم كيف كانت طرق تعذيبهم لمراد، ولكن مما ظهر في هذه الشقة أنهم عذبوه بوحشية كبيرة لأن السكان وجدوا ملابسه ممزقة والبلاط والحيطان ملطخة من أثر الرصاص الذي كانوا يرعبونه به في عملية إرهاب نفسي وجسدي، وبعد كل هذا الضرب العنيف أطلقوا عليه رصاصتين، رصاصة في الركبة اليسرى واخرى في القلب وعادوا إلى المعتقلين فوق دون مراد وقال احد الجنود لهم: صاحبكم مراد قتلناه. وقال الآخر: لا تردوا عليه لقد أرجعناه إلى أمه.
وتقول والدة الشهيد متمنية بأن يرزقها الله الشهادة وان يكون ذلك في عملية استشهادية لكي تثأر لمراد ولجميع الشهداء، تقول «ولكن القسوة الحقيقية هي انني لم أستطع أن أودع حبيبي ونور عيني، بل حرمت من لذة النظرة الاخيرة، وحرمت من طقوس الوداع لهذا الحبيب، حرمت من أن أطبع على جبينه قبلة الوداع، وأضمه إلى صدري الذي ينبض بحبه، نعم حرمت وداعه وانتم تدرون ما معنى ان تحرم أم من وداع فلذة كبدها ونور عينها وحبيب روحها، لكن الحمد لله على كل حال، علماً أن ولدي دفن في قبر جماعي قرب مستشفى الشيخ زايد مع إخوانه الشهداء الذين قضوا نحبهم وارتقوا إلى الرفيق الأعلى.. مرة أخرى عزائي أنه شهيد وأن الشهداء أحياء عند الله تعالى وأنهم المبشرون بالجنة».

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved