قدم السيد الأمريكي بكامل جبروته إلى قلب المنطقة العربية، يبحث عن مصالحه ويحارب أعداءها ويقود الصراع مباشرة مع قوى الشر المزعومة على ساحة المعركة الشرق أوسطية، فلم يعد التمثيل الأمريكي الدبلوماسي هو الذي يعبر عن وجهة النظر الأمريكية الرسمية، فقد تجاوز أعراف الدبلوماسية المتفق عليها، حين جاء بشحمه وعضلاته ومنطقه وكبريائه.. يحكم المنطقة من على ظهر دبابة يقودها أمريكي يتحدث العربية، ويخترق فضاءنا بدون استئذان، فتارة.. يخاطب عقولنا مباشرة عبر قنواته الإعلامية والاقتصادية التي تتكلم العربية، وتارة أخرى.. يبرر لنا سياساته ومبررات قدومه من خلال مقالات مثقف السلطة الأمريكي توماس فريدمان المترجمة للعربية، والتي تلقن القارئ العربي بصورة شبه يومية.. مبادئ «الفضيلة» أو الحقيقة على الطريقة الأمريكية..
ولكن كيف دخل ذلك السيد غير المتوج قلاعنا بسهولة، وكيف سرق منا «القرار» والإرادة والقدرة على إحداث التغيير؟، كيف استطاع أن يقف كظل يراقب تحركاتنا في العتمة، ويحاسب المقصرين ويكافئ الرابحين ويمنح فرصاً أخيرة لمن يخرج عن كلمته.. ومن أي ثغرة أو فجوة.. استطاع أن ينفذ إلى ديار العروبة بآلياته ورجاله ومعداته وقنواته.. ثم راح يملأ أسماعنا وأبصارنا بسياساته الإعلامية وخططه العسكرية ومشاريعه الاقتصادية..
وصل الإمبراطور الغربي إلى وسط الدار العربية، بينما كنا منشغلين.. نفكر كيف نقدم الإسلام له.. وكيف ننقذه من الخبث و«الوهن» الذي يعيش فيه منذ قرون، فقد كان يعني لنا سياسياً مجرد ممارسات خبيثة تستمد جذورها من حضارتي اليونان والرومان القديمتين، وتراثاً مسيحياً كهنوتيا وحروباً صليبية، ونهضة مادية، وتوسعاً استعمارياً قديماً ونظاماً عالمياً للهيمنة، يعتمد على الاستغلال الرأسمالي والتمييز العنصري، وأغراض خفية لأصولية مسيحية صهيونية، وخطط اقتصادية تعتمد جذرياً على ثروات الشعوب المستضعفة، وإعلاء قيم وشعارات الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، وعواقب إهدارها عند الآخرين طبقا لمصالحه الاقتصادية والسياسية..!.. بينما كان يعني حضارياً لكثير منا نموذجاً للحياة «الوهنة» التي تجمع بين النقيضين: الالتزام في ممارسات العمل والانضباط القانوني، والانحلال المفرط في أخلاقيات السلوك الفردي والاجتماعي، وهو ما أدى إلى مزيد من الفوضى الاجتماعية، والإباحية الأخلاقية، وارتفاع مقلق لمعدلات الجريمة والانتحار، وتفكك لروابط الحياة الأسرية، بدعوى التحرر والانطلاق من قيود الفطرة الإنسانية للعلاقة بين الجنسين.
تأصلت و«تأدلجت» تلك النظرة للغرب وصار من الواجب علينا أن نصلح الخلل الغربي في ثنايا تلك الهوة العميقة بين انحلال الأخلاق وصرامة التطبيق لممارسات العمل والانضباط القانوني، فقد كنا نعتقد أن بمقدرونا أن نزيل تلك الرتوش التي تشوه لوحة الحضارة الغربية المهيمنة، ونجعل من الغرب الصورة الطوباوية التي فشلنا في تحقيقها على أرض الواقع العربي.. وبالتالي هزيمة أهدافه الاستعمارية على أرضه!!
وبينما نحن نحاول بشتى الوسائل الدعوية إصلاح الخلل الغربي.. دخل المارد إلى ديارنا العربية من أوسع أبواب الموروث العربي.. وهجم على مواردنا من باب الفجوة التي لم نحاول أن نسد ثغراتها أو نضيق من سهولة منافذها منذ عقود وقرون من «التنظير»!.. إنها تلك الفجوة «اللعينة» التي تفصل بين النظرية والتطبيق في ثقافتنا.. فالثغرة في تاريخ الشرق العربي الإسلامي معاكسة تماما لما يحدث في الغرب.. وتقع بالتحديد بين سقف نظرية الأخلاق الصارم وبين قاعدة انحلال وهزالة الممارسات العملية والقانونية غير المنضبطة..
وتظهر تلك الفجوة في كثير من شرائح المجتمع وسلطاته.. فهي موجودة وبقوة بين سلطة الرجل وضعف المرأة، فالرجل قد يسرف تماماً في ممارساته المخالفة لواجبات الأخلاق الإسلامية، ولكن امتثاله «رسمياً» بشعاراتها وقدرته على فرض أحكامها قسراً على المرأة، قد يعفيه من عاقبة بعض ممارساته الخاطئة حسب نظرية الأخلاق، كما توجد أيضاً بين المدير التنفيذي وموظفيه، فالمدير يتلاعب في أحيان كثيرة كيفما شاء بقرارات المؤسسة التي يرأس جهازها التنفيذي، ولكن يشفع له عن محاسبته لاقتراف الأخطاء الإدارية الجسام، ضبطه التام لأداء موظفيه، ومراقبته الصارمة لهم.. أيضا تظهر بوضوح في علاقة الحاكم ومحكوميه في التاريخ العربي الإسلامي.. فعاقبة خروج ممارسات السلطان اللاشرعية من دائرة الانضباط القانوني، تغفرها قوته وقدرته على حكم الرعية بحزم، والتزامه التام لنشر الدعوة الإسلامية..
وانتقلت عدوى الثغرة إلى ثقافة العرب اللادينية، وازدادت انشقاقاً في مؤسسات العرب العلمانية والليبرالية وأنظمة العسكرتاريا القومية.. فدخل الغريب أو الأجنبي من أوسع أبوابها.. فالحزب الحاكم كان يقدم كل التسهيلات للمثقف لنشر مبادئ الحزب مقابل ثمن سكوته عن خروج زعماء الحزب من دائرة الانضباط القانوني.. مثلما فعل تماماً الفقيه أوالمثقف الديني في أغلب فترات الحكم الإسلامي في القرون الماضية، الذي كان يخاطب الإنسان المغلوب على أمره ويحاول إصلاح أخلاقياته ويحارب الفساد على المستوى الفردي، ويطلب من السلطة أن «تكفّر» عن مساوئ عدم انضباطها فانونياً من خلال دعم وسائل الجهاد المختلفة في سبيل نشر فضيلة الأخلاق الإسلامية.. لتزداد الفجوة مع مرور الزمن، وتصبح إحدى طبائع الثقافة العربية الحديثة، وعندما تهرم القوة أو السلطة.. لا يجد المستعمر أدنى مقاومة للعبور إلى قلب الدار..
لكن كيف نردم تلك الهوة المزمنة؟.. قبل أن نفعل ذلك.. يجب أن نعترف أولاً بخطورة منافذها، وأن نتعلم الدرس الذي تكرر كثيراً في الماضي، ثم نعمل على تصحيح فصول النتائج في مقرراته من أجل المصلحة العليا للوطن، فاستراتيجية المهادنة ومحاولة إصلاح الوهن الغربي فشلت.. والمواجهة تتم حالياً على أرض العروبة والإسلام بين المستعمر وقوى التمرد، وفي حكم المؤكد.. أننا إذا لم نتغير لا محاولة خاسرون، ولئلا يعود التاريخ من جديد.. يجب أن نواجه الواقع وأن نعمل سوياً على خلق مجتمع منضبط بجميع فئاته ومستوياته تحت سلطة الشريعة والقانون.. وإلا.. عاد فصل آخر من الدرس القديم، أو تحدث الواقعة، ونقع في قبضة الغريب وتحت هيمنة ثقافته وأولوية مصالحه الاستراتيجية..
|