* جدة واس:
وجّه سماحة مفتي عام المملكة العربية السعودية ورئيس هيئة كبار العلماء ورئيس إدارة البحوث العلمية والافتاء الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ كلمة في التحذير من الفرقة والامر بالاجتماع وبيان بعض اسباب الفتن وسبل النجاة منها.
وفيما يلي نص كلمة سماحته..
من عبدالعزيز بن عبدالله بن محمد آل الشيخ إلى من يراه من اخوانه المسلمين في مشارق الارض ومغاربها.. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على اشرف الانبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى اله وصحبه اجمعين..
اما بعد.. فيقول الله عز وجل {(قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ) } فكون الناس يلبسون شيعا يذيق بعضهم بأس بعض هذا من اعظم انواع العذاب وانكاه والعياذ بالله. ولما كان التفرق والتحزب بلاء ونقمة نهى الله عباده عن القصد إليه وامرهم بالاجتماع على الحق فقال سبحانه {وّاعًتّصٌمٍوا بٌحّبًلٌ اللّهٌ جّمٌيعْا وّلا تّفّرَّقٍوا} واخبر ان نبيه صلى الله عليه وسلم بريء من الذين فرقوا دينهم قال سبحانه {إنَّ الذٌينّ فّرَّقٍوا دٌينّهٍمً وّكّانٍوا شٌيّعْا لَّسًتّ مٌنًهٍمً فٌي شّيًءُ} وكذلك حذرنا نبينا صلى الله عليه وسلم من التفرق والتحزب والتشيع يقول النبي صلى الله عليه وسلم «افترقت اليهود على احدى او ثنتين وسبعين فرقة وتفرقت النصارى على احدى او ثنتين وسبعين فرقة وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة». وفي بعض الروايات بزيادة «كلها في النار الا فرقة»، والمقصود ان التفرق عقوبة من الله عز وجل وهو ايضا محرم على اهل الاسلام فلا يجوز لهم السعي في الافتراق والبعد عن الصراط المستقيم والبعد عن هذا الصراط المستقيم، كما انه سبب للفرقة والافتراق فهو سبب لحصول الاقتتال والعدوات كل هذا انما يحصل بسبب الجهل او البغي والظلم.
والنبي صلى الله عليه وسلم قد اخبر عن كثرة القتل في آخر الزمان يقول النبي صلى الله عليه وسلم «لا تقوم الساعة حتى يقبض العلم وتكثر الزلازل ويتقارب الزمان وتظهر الفتن ويكثرالهرج «وهو القتل القتل» حتى يكثر فيكم المال فيفيض»، اخرجه البخاري ومسلم بنحوه. وهذا وانه لما ظهر في زماننا بعض من حادوا عن الصراط المستقيم وخرجوا على جماعة المسلمين وشذوا عنهم ووقعت بسببهم فتنة عظيمة في الامة، كان لزاما على اهل العلم ان يبينوا الحق ويدلوا الناس على صراط الله المستقيم.
فمن الاسباب التي حملت بعض من زلت بهم القدم على الخروج عن الجادة وسفك دماء المعصومين والاعتداء على اموالهم وترويع الآمنين، الجهل: فان الجهل داء قاتل يردي صاحبه واعظم انواعه الجهل المركب فيسير المرء في حياته على جهل وهو لا يعلم انه جاهل، بل يظن نفسه على الحق والهدى، يقول الله تعالى {قٍلً هّلً نٍنّبٌَئٍكٍم بٌالأّخًسّرٌينّ أّعًمّالاْ الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) } وهذه الآية وان كانت في اليهود والنصارى فهي عامة بلفظها كل من عمل عملا يظنه حسنا وإلى الله مقربا وحقيقة عمله انه سيء وهو فيه لله سخط والعياذ بالله وهذا من الجهل بدين الله ومن ذلك قول الله تعالى {أّفّمّن زٍيٌَنّ لّهٍ سٍوءٍ عّمّلٌهٌ فّرّآهٍ حّسّنْا} وقد قيل: ما يبلغ الناس من جاهل
ما يبلغ الجاهل من نفسه
ومن الاسباب البغي فقد يكون المرء عنده علم من الكتاب والسنة لكنه يبغى ويظلم يقول الله تعالى عمّن هذه حاله {(كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) } ويقول الله سبحانه {(وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرائيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} فالبغى في العلم وبالعلم كلاهما من الظلم وهما من اسباب الافتتان والاعتداد بالرأي.
قال شيخ الاسلام «إذ اصل السنة مبناها على الاقتصاد والاعتدال دون البغي والاعتداء».
ومن الاسباب ايضا عدم التوفيق بين النصوص من الكتاب والسنة فينزع المستدل منهم بدليل يرى انه كاف في الدلالة على مقصودة ومراده ويترك الادلة الاخرى من الكتاب والسنة وربما تعسف الجواب عنها ابقاء لاستدلاله على حاله. وهذا من اعظم الاسباب التي اهلكت السابقين واللاحقين يقول الله تعالى {(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) }. والناس أمام النصوص التي ظاهرها التعارض قسمان قسم جعل هذا المتبادر من التعارض ذريعة للطعن في الدين وهذا والعياذ بالله من شرار الخلق نسأل الله السلامة والعافية، وقسم نزع بنوع من انواع الادلة وترك النوع الآخر وربما تأوله على غير تأويله وهذه ايضا ضلالة عن الهدى واتباع للهوى، اما اهل الحق فيعملون بجميع الادلة ويحملونها على محاملها في مواضعها على ما يقتضيه النظر العلمي الشرعي المؤصل كما فعل سلفهم الصالح من الصحابة رضي الله عنهم واتباعهم باحسان فكانوا هم اسعد الناس بالعمل بالكتاب والسنة.
والواجب على من نظر في نصوص الوحيين ان يحسن نظره فيهما وان يظن فيهما ما يوافق الحق وان توهم التعارض فليكل العلم إلى عالمه ولا يضرب النصوص بعضها ببعض، فعن علي بن ابي طالب رضي الله عنه قال «إذا حدثتكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا فظنوا به الذي هو اهناه واهداه واتقاه» اخرجه ابن ماجه بسند صحيح. واخرج ايضا مثله عن ابن مسعود رضي الله عنه.
ومن الاسباب ايضا: اساءة الظن بالعلماء وبالولاة والامراء فينظرون الى تصرفات الامير ويحملونها على اسوا المحامل ثم يحكمون عليه باهوائهم بالبدعة او الكفر والعياذ بالله ويترتب على هذا عندهم جواز الخروج ووجوب انكار المنكر بالقوة وينظرون إلى ان العلماء ساكتون عن المنكر مداهنون للسلطان فيضللونهم ولا يقبلون كلامهم، فيبقى الشباب بعد ذلك بلا خطام ولا زمام فلا أمير يسمع له ويطيع ويسير تحت قيادته ولا عالم يثق فيه ويأخذ من علمه ويقبل توجيهه فتتلقفه ايدي المفسدين من اعداء الدين ويستغلونه في تحقيق مآربهم ضد امة الاسلام باسم الدين وهذا الامر لم تكن بدايته في وقتنا هذا وليس هو وليد العصر، بل حصل منذ عهد الخليفة الراشد ذي النورين احد المبشرين بالجنة إمام المسلمين في وقته وافضلهم في زمانه عثمان بن عفان رضي الله عنه فقد عاب عليه سفهاء الاحلام بعض تصرفاته في الحكم واستحلوا دمه ولم يقبلوا من كبار اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم علماء وقتهم لم يقبلوا توجيههم ونصحهم فقتلوا خير البشر في زمانه رضي الله عنه وارضاه ووضعوا السيف في المسلمين وكانت بسببهم الفتنة بين اهل الاسلام ف {انا لله وانا اليه راجعون}.
والواجب على شباب الامة وعلى عامتها وخاصتها احسان الظن بالمسلمين وبعلمائهم وولاتهم. يقول الله تعالى في حق الانصار مع المهاجرين ومن جاء بعدهم من المسلمين {(وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَوَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ) } وليعلموا ان السمع والطاعة لولاة الامر من المسلمين في غير معصية الله واجبة لا خيار لمسلم فيها ومن عصى الامير فقد عصى الله تعالى ولا يجوز الخروج عليهم وان جاروا وان ظلموا، وادلة ذلك مبسوطة في كتب الحديث والعقائد فان السمع والطاعة لولاة الامر من المسلمين من عقائد اهل السنة والجماعةالتى فارقوا بها اهل البدعة والضلالة من المعتزلة والخوارج ونحوهم.
ومن الادلة في ذلك قوله تعالى {يّا أّيٍَهّا الذٌينّ آمّنٍوا أّطٌيعٍوا اللهّ وّأّطٌيعٍوا الرَّسٍولّ وّأٍوًلٌي الأّمًرٌ} ويقول النبي صلى الله عليه وسلم «ثلاث لا يغل عليهن قلب امرئ مسلم: اخلاص العمل لله وطاعة ولاة الامر ولزوم جماعتهم فان دعوتهم تحيط من ورائهم»، اخرجه الترمذي وابن ماجه.
ومن اقوال السلف في هذا قول الفضيل بن عياض رحمه الله «لو كانت لى دعوة مستجابة لم اجعلها الا في امام لانه إذا صلح الامام امن البلاد والعباد ».
قال ابن المبارك «يا معلم الخير من يجترئ على هذا غيرك»، وكذلك علماء السلف يجب احترامهم وتوقيرهم والاخذ عنهم يقول الطحاوي رحمه الله في اواخر عقيدته «وعلماء السلف السابقين ومن بعدهم من التابعين «اهل الخير والأثر واهل الفقه والنظر » لا يذكرون إلا بالجميل ومن ذكرهم بسوء فهو على غير سبيل».
قال شيخ الاسلام رحمه الله «فيجب على المسلمين بعد موالاة الله ورسوله موالاة المؤمنين كما نطق به القرآن خصوصا العلماء الذي هم ورثة الانبياء الذين جعلهم الله بمنزلة النجوم يهتدى بهم في ظلمات البر والبحر،وقد اجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم اذ كل امة قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم فعلماؤها شرارها الا المسلمين فان علماءهم خيارهم فانهم خلفاء الرسول في امته والمحيون لما مات من سنته، بهم قام الكتاب وبه قامواوبهم نطق الكتاب وبه نطقوا وهم ورثة الانبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما وانما ورثوا العلم فمن اخذه اخذ بحظ وافر.
وليتفطن شبابنا لمخططات اعداء الدين وليسألوا انفسهم من المستفيد من التفريق بين المسلمين وولاة امورهم وقادة بلدانهم؟ من المستفيد من زعزعة امن البلاد المسلمة ووضع السيف عليهم واراقة دمائهم؟ من المستفيد من نزع الثقة من علماء المسلمين وترك العامة يهيمون لا يدرون من يسألون ولا من يوجههم ويدلهم على الحق؟ ان من تأمل هذا حقا علم ان الامة انما تصاب مصيبة عظيمة حين تنزع الثقة من ولاة امرها ومن علمائها وتكون الامة هائمة يقودها كل ناعق ويزج بها في اودية الهلاك كل مفسد تحت شعارات ورايات الله اعلم بما ورائها.
ومن الاسباب ايضا الغلو في الدين إما في فهمه واما في تطبيقه والغلو آفة عظيمة مهلكة فعن ابن عباس رضي الله عنهما ان النبي صلى الله عليه وسلم قال «اياكم والغلو فانما اهلك من كان قبلكم الغلو في الدين» اخرجه الامام احمد يقول محمد بن نصر المروزي رحمه الله «وهكذا عامة اهل الاهواء والبدع انما هم بين امرين غلو في دين الله وشدة ذهاب فيه حتى يمرقوا منه بمجاوزتهم الحدود التي حدها الله ورسوله او اخفاء وجحود به حتى يقصروا عن حدود الله التي حدها ودين الله موضوع فوق التقصير ودون الغلو» ا. هـ. والله تعالى يقول {قٍلً يّا أّهًلّ پًكٌتّابٌ لا تّغًلٍوا فٌي دٌينٌكٍمً} وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الغلو وبين عاقبته الوخيمة يقول صلى الله عليه وسلم «هلك المتنطعون» قالها ثلاثا اخرجه مسلم.
هذا وان من تعلم دين الله على الحقيقة علم انه دين السماحة والرفق واللين، دين الرحمة والعدل فهو الدين الذي وضع الله به الاصار والاغلال عن العباد {(الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) } وقوله عز وجل {(وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ)} والاصل في هذا الدين السماحة والرفق ولم يأت بالعنف فيجب على المسلم ان يعي هذا ويفهم دينه وفق هذا الاصل العظيم يقول الله سبحانه {يٍرٌيدٍ اللّهٍ بٌكٍمٍ اليٍسًرّ وّلا يٍرٌيدٍ بٌكٍمٍ العسًرّ}. ويقول النبي صلى الله عليه وسلم «ان الدين يسر ولن يشاد الدين احد الا غلبه فسددوا وقاربوا وابشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة» اخرجه البخاري. ويقول صلى الله عليه وسلم «ان الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف وما لا يعطي على ما سواه» اخرجه البخاري ومسلم واللفظ له، فالواجب على الشاب المسلم وعلى عموم اهل الاسلام ان يعلموا ان طريق الاصلاح لا يكون بالعنف ابدا فالاسلام ليس دين عنف بل دين الرحمة بالانسان بل والحيوان يقول النبي صلى الله عليه وسلم «الراحمون يرحمهم الرحمن ارحموا من في الارض يرحمكم من في السماء» اخرجه ابو داود والترمذي واللفظ له وقال حديث حسن صحيح.
وجاء وصف النبي صلى الله عليه وسلم في القرآن بالرحمة {)لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ) } والله سبحانه رفيق يحب الرفق ويعطي عليه ما لا يعطي على العنف. ومتى تصور المسلمون الاسلام بغير هذا التصور او طبقوه على خلاف هذا الاصل فانهم سيحرمون الخير يقول النبي صلى الله عليه وسلم «من يحرم الرفق يحرم الخير» اخرجه مسلم.
والغلو في فهم الدين ينتج عنه امور تجر عواقب سيئة وخيمة منها الغيرة غير المنضبطة بضابط الشرع فتجر على صاحبها وعلى مجتمعه بلاء عظيما لا شك ان المؤمن يجب عليه ان يغضب لله عز وجل ولا يرضى ان تنتهك محارمه لكن يجب عليه ايضا ان يكون عمله وانكاره وفق شرع الله فانه ان زاد عن الحد المشروع فقد وقع في منكر ومحرم من حيث يريد الاصلاح فيجب على المسلم الا تخرج به غيرته عن الضوابط الشرعية يقول النبي صلى الله عليه وسلم «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فان لم يستطع فبلسانه فان لم يستطع فبقلبه وذلك اضعف الايمان»، اخرجه مسلم. فالنبي صلى الله عليه وسلم امر بالتغيير ولم يأمر بالازالة ولو امر بالازالة لكان فيه حرج شديد والتغيير ينظر فيه إلى قاعدة الشرع العامة وهي النظرفي المصالح والمفاسد اجتماعا وافتراقا وايضا يجب على من تصدى لتغيير المنكر ان يكون عنده علم بان هذا منكر وعلم بأسلوب التغيير المناسب بحيث لا يعقبه منكر اشد منه او يفوت مصلحة اعظم وايضا يكون رفيقا حليما حال انكاره صبورا على ما يصيبه من الاذى ولا ينتقم لنفسه.
ومما ينتج عن الغلو في فهم الدين ما يثار حول الجهاد في سبيل الله وتصوره على غير وجهه الصحيح فهناك من استغل حال الامة وما ابتليت به من الاعداء فرفع شعار الجهاد ليجلب إليه شباب الامة وليس الجهاد الذي يقصده هو الجهاد في سبيل الله وذلك يتضح من امور قالها اهل العلم. اولا: الاصل في الجهاد انه فرض كفاية وان امره موكل للامام واجتهاده ويلزم الرعية طاعته في ذلك. ثانيا: انه للامام ان يؤخر الجهاد لعذر كأن يكون بالمسلمين ضعف في عددهم او عتادهم او غير ذلك من الاعذار او يكون في تأخيره مصلحة لاهل الاسلام او رجاء اسلام من يراد جهادهم. ثالثا: ان الجهاد لا يكون فرض عين الا في ثلاثة مواضع نص عليها اهل العلم وهي بإجمال:
1 - إذا التقى الزحفان وتقابل الصفان فحينئذ يحرم على من حضر الانصراف ويتعين عليه المقام يقول الله تعالى {يّا أّيٍَهّا الذينّ آمّنٍوا اذًكٍرٍوا اللهّ ذٌكًرْا كّثٌيرْا}
2- إذا نزل الكفار ببلد تعين على اهل البلد قتالهم ودفعهم.
3 - إذا استنفر الامام قوما لزمهم النفير معه لقوله تعالى {(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} الآية وقال النبي صلى الله عليه وسلم «إذا استنفرتم فانفروا» متفق عليه. رابعا: ان لامام المسلمين عقد الذمة مع الكفار وله ان يعقد عقد امان وعهد ولا يجوز لاحد ان يخالف تلك العقود بقتل او اعتداء على مال او عرض ومن فعل ذلك فهو اثم مرتكب لكبيرة من كبائر الذنوب وليس هذا الفعل من الجهاد في سبيل الله بل ولا هو من سبيل المسلمين الذين يخافون الله ويخشون عذابه وقد حذرنا الله عز وجل من اتباع غير سبيل المؤمنين فقال {(وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً) } والمشاهد ان من تجرأ على هذا العمل فانه لا بد وان يصيب المسلمين في انفسهم واموالهم. والنبي صلى الله عليه وسلم بريء ممن هذا فعله يقول صلى الله عليه وسلم «من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات فميتة جاهلية ومن قاتل تحت راية عصبة يغضب لعصبته او يدعو إلى عصبة او ينصر عصبة فقتل فقتلة جاهلية ومن خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها ولا يتحاشى لمؤمنها ولا يفي لذي عهدها فليس مني ولست منه» اخرجه مسلم. فالامر خطير والواجب على المسلم ان يوطن نفسه على معرفة شرع الله بالادلة والعمل به على بصيرة والاخذ عن العلماء الراسخين فان هذا هو دأب السلف قال بعضهم ان هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم. ثم ان هناك اسبابا للعقوبات والمصائب التي تحل بالمجتمعات منها:
اولا: الذنوب والمعاصي يقول الله تعالى {(وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} ويقول سبحانه {)ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} ويقول سبحانه {)وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ}. والنصوص في هذا الباب كثيرة متنوعة وهذا الاصل مقرر عند المسلمين انه ما نزل بلاء الا بذنب ولا رفع الا بتوبة يقول الله تعالى {وّتٍوبٍوا إلّى الله جّمٌيعْا أّيٍَهّا المٍؤًمٌنٍونّ لّعّلَّكٍمً تٍفًلٌحٍونّ} ومهما تعاظم الذنب فان الله يتوب على من تاب {)قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}. وثاني الاسباب العامة: ترك القيام بحقوق الله ونسيان الآخرة وعدم الاستعداد لها بالعمل الصالح يقول الله تعالى{)فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ) } يقول النبي صلى الله عليه وسلم «إذا رأيت الله يعطي العبد ما يحب وهو مقيم على معاصيه فانما ذلك منه استدراج» وقرأ هذه الآية اخرجه الامام احمد.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم ضمن حديث له «فوالله ما الفقر اخشى عليكم ولكني اخشى ان تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما اهلكتهم». متفق عليه.
وثالث الاسباب العامة الركون إلى الدنيا والرضا بها والدعة وكثرة الترف وظهور الفسق: والمراد بالترف الترف الزائد عن الحد الصارف عن القيام بحقوق الله الحامل على ظهور الفسق والجهر به.
وقد اخرج ابو داود في سنته عن بعض اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينهانا عن كثير من الارفاه» يقول الله تعالى: {)وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً) } ومعنى امرنا مترفيها اي اكثرنا فساقها كما قال ابن عباس رضي الله عنهما. ويقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما اخرجه ابن حبان في صحيحه وغيره من الائمة «إذا مشت أمتي المطيطاء وخدمتهم فارس والروم سلط بعضهم على بعض» والمطيطاء مشية فيها اختيال. وعن ابن عمر رضي الله عنهما ان النبي صلى الله عليه وسلم قال «إذا تبايعتم بالعينة واخذتم اذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم».اخرجه ابو داود.
والمقصود ان الانغماس في النعيم والترفه الزائد عن الحد الصارف عن القيام بحقوق الله عز وجل سبب للذل والهلاك. هذا ما قصدنا إلى بيانه ابراء للذمة ونصحا للامة واني لاسال الله العلي العظيم بمنه وكرمه وبعزته وقدرته ان يصلح احوال المسلمين وان ينصرهم في دينهم ويهدي ضالهم ويثبت على الحق مطيعهم ويزيد الجميع هدى وتوفيقا وبرا وان يعز الاسلام واهله ويرفع من في رفعته عز للاسلام والمسلمين ويضع من في ضعته عز للاسلام والمسلمين كما اسأله سبحانه ان يبدل ذل المسلمين عزا وضعفهم قوة وتفرقهم اجتماعا على الحق وان يرهب بهم اعداءه اعداء الدين وان يصلح ولاة امر المسلمين وقادتهم ويدلهم على الخير ويوفقهم للحكم بكتابه وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وان يجعلهم هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين وان يجعلهم رحمة على رعاياهم اعوانا على البر والتقوى كما اسأله سبحانه ان يوفق ولي امرنا لما يحب ويرضى وان يجعلنا وإياه من المتعاونين على البر والتقوى ويرزقنا البطانة الصالحة ويصلح لنا جميعا العقب والعاقبة انه سبحانه سميع مجيب.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن سار على دربه واقتفى اثره إلى يوم الدين.
|