إن ولي الأمر حينما أوكل المسؤولية العامة في بعض أعمال ولايته إلى رجال بذل وسعه في اختيارهم للقيام بأعمال القطاعات المسؤولين عنها برأت ذمته إن شاء الله من تبعات القصور المصاحب لتفاصيل الأعمال المتعلقة بهذه القطاعات، ولم يبق إلا المراقبة والمتابعة العامة التي قد يعهد بها ولي الأمر لمن يثق في أمانته وكفاءته.
ولأن ولي الأمر مهما بلغ حرصه ليس شمساً مشرقة يسع علمه كل أمر من أمور ولايته، فإن عبء الأمانة في القيام بالمسؤوليات يقع على عاتق المسؤول الذي يباشر هذه المهام.
ولأن الإنسان هو مدار الاهتمام والرعاية والحقوق على هذه الأرض، فسألقي الضوء على فئة من شريحة هذا الإنسان، هذه الفئة التي أصبحت مع هذا التحول الاجتماعي والاقتصادي الذي حل بمجتمعنا في تزايد مطرد وأعني بهم المرضى العقليين والنفسيين الذين ما تذهب إلى قرية أو مدينة في عرض وطننا وطوله إلا وتجدها تعج بهم تيهاً وضياعاً. ولقد قدر لي بحكم عملي أن اتنقل بين أغلب مناطق ومدن المملكة وقد لفت انتباهي كثرة هذه الفئة، بل تزايدها وكأنها بهائم سائبة ليس لها راع يقوم عليها. والغريب أنك حينما تقف تحدث أحدهم لا تنكر عليه أي خلل عقلي خطير سوى البؤس الذي يعيشه فألقى بظلاله على حالته العقلية والنفسية، حتى أن كثيراً منهم لجأ إلى تعاطي جميع أنواع السموم والمبيدات إمعاناً منهم في الغياب عن هذا العالم الذي لا يرحم.
إنه ليتملكك العجب الذي لا ينفك عن إجابة مقنعة لما وصل إليه وضع هذه الفئة في مجتمعنا المسلم المحافظ الذي ينبغي وهذا مستواه الإسلامي أن يعيش التكافل الاجتماعي واقعاً حياً حتى لا يكون إسلامنا مجرد عبادات وشعائر مجردة من أي سلوك عملي يجسد الأخوة الإسلامية الحقة.
إن كثيرين من هذه الفئة يفتقدون لأسر ترعاهم بعدما فقدوا الأبوين أو أن أسرهم عاجزة عن رعايتهم، مما جعلهم يتحولون إلى رمز للبؤس البشري في وسط مجتمع مترف غرق في الماديات حتى غدا لا يأبه بعذابات الآخرين.
إن ديننا يحتم علينا الوقوف على مثل هذه الحالات وقفة يحوطها العطف والرحمة لهذه الفئات التي لم تزل من فئة البشر السوي. إن خيرات هذا الوطن ومواقفه الإنسانية عمت أقطار المعمورة، فلماذا تتعدى هذه الفئة من أبناء الوطن الذين هم بأمسِّ الحاجة للرعاية والاهتمام. هب أن أحدهم ميؤوس من شفائه مع أنه لا يأس من رحمة الله. أليس يبقى إنساناً له حقوق وكرامة تحتم احاطته بالرعاية والرحمة بدل أن يترك تائهاً يتقلب بين بؤس الشتاء والصيف وسط الأودية والشعاب أو بين الأرصفة والزقاق.
إن على رجال المال والأعمال والجمعيات الخيرية مسؤولية كبيرة في الاهتمام بهذه الفئات وتقديم الرعاية لها، لكن المسؤولية الأعظم في رأيي تقع على الجهات الرسمية ممثلة في وزارتي الصحة والعمل والشؤون الاجتماعية كونها المعنية بهذه الفئات وهي التي يمكن لها وضع الخطط والبرامج المناسبة لمعالجة أوضاع هذه الفئة بشكل جذري والتي وصلت في مجتمعنا إلى حد الظاهرة مع تزايد الأمراض النفسية نتيجة لضغوط الحياة وضعف الإيمان وكضريبة للتمدن وتفشي العلاقات المادية بين أفراد المجتمع.
إن التعامل مع هذه الفئة كحالة مرضية عارضة ووفق إجراءات بيروقراطية تنعدم فيها المشاعر الإنسانية سيجعل أي إجراءات تتصدى لعلاجها عديمة الجدوى ما لم يصاحب ذلك اهتمام وشعور بالمسؤولية في وضع مشروع عملي فاعل وشامل ينتشل هذه الفئة من هذا الوضع البائس.
كما أن الاعتماد في معالجة هذه الظاهرة على ما يثار في وسائل الإعلام عن بعض الحالات الفردية أو ما يتقدم به بعض أهالي هؤلاء من التماسات أو توصيات لعلاجهم أو إيوائهم داخل المصحات النفسية لن يحل المشكلة. ينبغي أن نلغي النظرة العامة إلى هذه الفئة كمجرمين أو خارجين على النظام أو حتى مختلفين خطرين، وبالتالي ووفق هذه النظرة الخاطئة إذا قدر لهم دخول مصحة أو إصلاحية نعاملهم كسجناء، بل ينبغي أن نوفر لهم المناخ الملائم لمعالجة حالاتهم التي قد يكون كثير منها قريب من التعافي لو وجد الرعاية والاهتمام المطلوب والمستمر. ينبغي أن تكون أماكن إيوائهم محاضن رحيمة تعيد الثقة المفقودة لديهم بأنهم أناس أسوياء منتجين وذلك بأن توفر لهم وسائل تدريبية وانتاجية مفيدة كجزء من العلاج وبدعم من القطاع الصناعي الخاص والعام.
إن الأمر من الخطورة والشمول بما لا ينفع معه معالجات جزئية، بل يحتاج إلى مسح بحثي جاد وشامل لهذه الفئة من الجنسين الذكور والإناث والعمل على إنشاء مصحات ومراكز إيواء دائمة لرعايتهم وعلاجهم، مع مطالبة رجال المال الجمعيات الخيرية بدعم هذا المشروع.
إنني حينما استعرض أبعاد هذه المشكلة لا اتحدث من برج عال، فلقد مرّ معي تجربة فردية خاصة لأحد أقاربي وهو شاب يعاني من مرض نفسي عمق أثره ما لا قاه من تشرد وبؤس وإهمال من القريب والبعيد بعدما فقد أبويه وأي عائل قريب، ولقد سعيت للشفاعة له في الدخول لمركز الأمل بالرياض وبعد جهد جهيد أدخل المركز وبعد مضي حوالي ثلاثة أسابيع من وجوده لديهم طالبوا بإخراجه وبعد محاولات جهيدة مددوا مكثه لديهم لأسبوع اضافي ثم أخرجوه عنوة بحجة عدم وجود مكان له. وهو الآن هائم على وجهه في الشعاب والطرقات في حالة لا تسر العدو قبل الصديق. وقس عليه مئات إن لم يكن آلاف مثل حالته أو أشد قسوة.
إن هذه الفئة تحتاج إلى عناية خاصة لا تستطيع أسرهم مهما بلغت إمكاناتها القيام بها، خاصة فيما يتعلق بالرجال، وقد نجد المعاناة مع النساء أشد وأنكى في ظل ظروف اجتماعية صارمة حتى أنك قد تجد بعض النساء من هذه الفئات قد قيدن وسجن في أقفاص حديدية مدى الحياة وقد نشرت الصحف نماذج من ذلك، اضافة إلى الحوادث المؤسفة التي قد تقع من مثل هذه الفئات حتى وصلت القتل.
وما ذاك إلا لعدم وجود الآليات الفاعلة لاحتوائهم ورعايتهم، بل والتعامل معهم كعبء ينبغي التخلص منه وكفى.
إنني من هذا المنبر المبارك أناشد من بيده المسؤولية والسلطة عن هذه الظاهرة أن يجعلها نصب اهتمامه العاجل حتى تكون هماً وطنياً ملحاً تحقق من خلاله المعالجة الشاملة والفاعلة لها والتعامل معها بما تستحقه من اهتمام يوازي حجم مأساة ومعاناة أطرافها وبما يجسد روح التكافل والتعاون على البر والتقوى في مجتمع تسوده المحبة والرحمة، وبما يخلي مسؤوليات المعنيين بهذه الظاهرة وعلى رأسهم وزيرا الصحة والعمل أمام الله ثم أمام ولي الأمر الذي أوكل إليهم هذه المسؤولية والأمانة العظيمة التي تتطلب تضافر الجهود العامة والخاصة لعلاجها قبل أن تخرج عن السيطرة بتضخم حجمها مما قد يتطلب إمكانات وجهود قد لا تتوفر في حينه مما يعمق المشكلة ويزيد من معاناة أطرافها الذين لا ينحصرون في هذه الفئة فحسب، بل يشمل ذويهم الذين يعانون من معاناتهم كونهم يصطلون بنار اللوعة والحرمان المتجسد في فلذات أكبادهم ثم لا يجدون لهم سبيل لرعايتهم وعلاجهم فحري بمن حمل المسؤولية العمل الدؤوب الذي يستشعر الأمانة والمسؤولية الملقاة على عاتقه والتي لا محالة سيسأل عنها في الدقيق والجليل يوم العرض الأكبر على الله في يوم لا تخفى على الله فيه خافية.
وآخر الكلام: اللهم هل بلغت اللهم فاشهد. والله الموفق.
ص. ب 31886 الرياض 11418
|