لقد قرأت مقالا للأستاذ سعد الدوسري في زاويته المميزة باتجاه الأبيض الأسبوع الماضي عن ذلك الذي حاول إنقاذ زميله الذي انقطعت به (عربته) على طريق مكة المكرمة الرياض فما كان إلا أن وجد «المنقذ» من الاجراءات المرورية ما جعله هو نفسه بحاجة إلى انقاذ من ميكانيكية الروتين وحَرفيته - بفتح الحاء لا كسرها - وهذه القصة هي مما أثار شجن الأسئلة عن الكثير من المواقف اليومية التي تحدث لنا ولغيرنا وتحتاج إلى وقفة ومساءلة أو على الأقل اتخاذ موقف ايجابي تجاهها غير أننا لا نفعل ازاءها أكثر من الإمعان في التهرب من مسؤولياتها واتخاذ أقصى ما نطيقة من الوقوف السلبي وكأننا مكتوفو الضمير مكفوفو العيون.. فلماذا؟؟؟
- لماذا نصم آذاننا «ونتطلم» بالغتر والشيال ونغمض عيوننا ونقفل حواسنا وننوِّم ضميرنا عن التبليغ عن حادث مروع وقع على طريق ذهابنا أو إيابنا من اشغالنا أو عن التبليغ عن خلل - ما - نراه في الشارع أو الجوار حتى لو كان سينتج عن المبادرة إنقاذ أرواح بريئة وعن «التجاهل» ازهاقها لا سمح الله.
- لماذا (مع بالغ أهميتهما) نقتصر على الحوقلة والبسملة على أنفسنا و «ذريتنا» عندما نصادف طفلا يتدلى من نافذة السيارة في غفلة من أهله دون أن نكلف أنفسنا عناء تنبيههم إلى الخطر الماحق الذي قد يخطف روحاً طرية في العطفة التالية.
ولماذا يحدث نفس الموقف السالب عندما نشاهد عباءة امرأة تتدلى من السيارة وتلتف على العجلة. هل لأننا قد نتهم في التدخل فيما لا يعنينا كما حدثتني إحداهن حين لاحقتهن سيارة بالمنبه لتشير لهم أن العباءة ملفوفة على «الكفر». فما كان من زوجها إلا أن دق هاتف الجوال بعد أن أخذ رقم تلك السيارة التي أرادت ان تقوم بذلك العمل الخيري في التنبيه إلى خطر التفاف العباءة على الكفر وأبلغ المرور أن بتلك السيارة بعض «السمرمد» الذين لاحقوه وزوجته للمعاكسة.
- لماذا نكتفي من الحنق بالابتسامة الصفراء وهز الرأس عندما يكتفي الطبيب من تشخيص الحالة بكتابة «الروشته» والرطانة ببعض المصطلحات الأجنبية عنها دون أن يكلف نفسه عناء أن يشرح لنا كبشر قادرين على ا لاستيعاب ما يعنينا من الحالة وما يعيننا على مواجهتها. ولماذا نفعل نفس الشيء أي نكتفي بالابتسامة المسمومة الصامتة عندما يكتفي أستاذ الجامعة من بحوث الطلاب بالمطالبة بها واستلامها دون أن يبدو أنه يقرؤها أو يوجه الطلاب فيها أو عندما يكتفي استاذ جامعي أو استاذة من دوره التعليمي «ببرستيج» لقب دكتور وبفتح كتاب المقرر والقراءة منه ساعة كاملة هي وقت المحاضرة.
- لماذا نكتفي من الغنيمة بالسلامة ومن «الشهادة» بالصمت عندما يمس موقف - ما - زملاء المهنة أو الجيران أو سواهم ممن قد يتعرضون لضيم في أمر من أمورهم حتى وان كنا نرى أن الحق حق والباطل باطل. وكأننا نعجز عن اتباع الأول «الحق» والوقوف بجانبه كما نعجز عن تجنب الآخر «الباطل» أو معاداته.
- لماذا ندس رؤوسنا في الرمل إذا رأينا الموس..؟
- لماذا نلتجئ إلى التمسكن في المطالبة بأبسط الحقوق أو حتى عند القيام باجراءات روتينية كمراجعة دائرة حكومية أو جهة أهلية ونرضى من الحق بالمماطلة ومن الموظف الذي يأخذ أجراً على أداء عمله بالنظرات الشذرى التي يرمينا بها لمجرد أن معاملة بسيطة قد رمتنا على بابه أو وضعتنا أمام مكتبه.
- لماذا نصاب بالتلعثم والسخاء وان على خصاصة إذا جاءتنا الفواتير أكثر من الحساب، وإذا كان المحاسب أوالمسؤول «المنيجر» manager أو النادل يتكلم لغة أجنبية أو بشرته حمراء توحي بسرعة الغضب، وان كان ذلك الغبن من أنفسنا لأنفسنا يحدث في «عقر دارنا» في الشركات والبقالات «السوبر ماركت» في المستشفيات والمطاعم وغيرها من المرافق العامة والأخرى.
- لماذا نكتفي من العلاقة بصاحب العمل أو بالرئيس أو المدير / المديرة بالتسليم الصباحي أو بالتحميد على السلامة من السفر أو بالمعايدة أو سواها من المجاملات الباردة في مناسباته الخاصة أو العامة دون أن يخطر على بالنا ان المجاملات الاجتماعية في علاقات العمل على أهميتها فانها يجب ألا تكون على حساب مصلحة العمل. أما إذا خطر على بالنا هاجس من هذا النوع فسرعان ما نسارع ونقمعه لئلا يسمعه غيرنا. هذا إذا لم نكن ننزع دون أن يوعز إلينا بذلك أحد غير نوازع مصالحنا الشخصية إلى «تطمين الراس» و«حب الخشوم» والمبالغة في تضخيم ايجابيات «وجود» ذلك الرئيس بعينه على رأس العمل مع قدرة لا يقدر عليها الا مدرب على النوم ضميره لابتلاع سلبيات العمل وتجنب توجيه أي شكل من أشكال النقد لتلك السلبيات.
- لماذا ننقل المشهد إلى محطات الأغاني حيث جواري الفديو كليب يبعن اجساداً لها حرمتها، رخيصة على الهواء مباشرة ونقلب أو نغير القناة الفضائية، إذا جاء فيها برنامج جاد من البرامج التي تبين لنا أوضاعنا الدامية، كالبرنامج الذي عرض على قناة العربية مساء السبت الماضي في ادانة «اسرائيل» القانونية على تعذيبها الوحشي غير المسبوق في التاريخ لمعتقلي سجن الخيام بجنوب لبنان ولمدة تمتد من منتصف الثمانينيات إلى أواخر التسعينيات ممن دخل بعضهم السجن، فتيان وفتيات يافعين بتهم «تافهة» مثل ترديد أناشيد تشيد بمقاومة الجور الصهيوني، وخرجوا شبابا تعدوا العشرينيات بعاهات مستديمة في اطرافهم واعضائهم التناسلية. لماذا لا نطيق مجرد متابعة جراحنا وآلامنا بقليل من التعرف على بعض صورها المهينة «تلفزيونياً» بينما «في الغرب اللدود» ينخرط الناس العاديون في جمعيات حقوقية تتابع مثل هذه الحالات وتحاول أن تحول دون استمرارها، حيث شاهدنا في ذلك البرنامج سيدات ورجال بعضهم طاعن في العمر يتركون مسراتهم الشخصية ويلاحقون هذه الممارسات ويستقصون حقائقها بالسفر من بلد إلى بلد لفضح بشاعتها ولمحاكمتها قضائياً.
- لماذا نتابع الأحداث الساخنة التي ترفع من حرارة قيظ صيفنا إلى ما فوق درجة الغليان وتقض مضجع كل صاحب ضمير انساني ووطني وكأننا نتابع أحداث مسلسل مكسيكي أو امريكي مثير دون أن نسأل أنفسنا أسرا وأفراداً ومسؤولين عن دورنا في هذه الظواهر التي يذهب ضحيتها شباب، فتترمل نساؤهم في ريعان العمر ويتيتم صغارهم قبل أن تستدير على شفاههم كلمة بابا، كما يذهب ضحاياها شباب كانت أمهاتهم في أشد اللهفة على الاحتفال باعراسهم ونجاحاتهم بدل البكاء اليوم على مصائر غامضة تتخبطهم، بالضبط مثلما كان الوطن في أمسِّ الحاجة لوقوفهم معه لا ضد أمنه لماذا على الأقل لا نقف مع أنفسنا وقفة محاسبة قبل أن نقف تلك الوقف بين أيادي الله ونسأل أين كان الخلل الذي نتجت عنه هذه الكوارث الأسرية والوطنية.
- ومما يفاقم السؤال هو أن تلك المواقف السالبة تمتد من اشكالياتنا الاجتماعية الكبيرة الى تلك المشاكل الصغيرة التي يمكن مواجهتها بالصبر والاخلاص وبعض البصيرة وأعمال الضمير والعقل. فلماذا على سبيل المثال يحرم ذلك الطالب المجتهد الذي أهلته نسبته في الثانوية وفي اختبار القدرات عن الالتحاق بكلية المعلمين التي يريد كما نشرت ذلك جريدة (اليوم) الأسبوع الماضي لمجرد أنه تعرض (قبل الامتحانات) لحادث أفقده احدى ساعديه. فإذا كانت اعاقته لم تمنعه من حضور المدرسة طوال العام وأداء الامتحانات بنجاح فلماذا تمنعه من الالتحاق بالسلك التعليمي لمهنة التعليم التي عشقها والتي يمكن أن يبدع فيها أكثر من سواها بسبب هذا العشق وتحدي الاعاقة معاً. وللمعلومية فان هناك في جامعات غربية عشرات الأساتذة والاستاذات ممن يحاضرون ويشرفون على البحوث والاطروحات العلمية للماجستير والدكتوراه. وهم لا يغادرون كراسيهم المتحركة وبعضهم يعاني من اعاقات شديدة في عدد من الاطراف واحدى هؤلاء كانت من أعضاء لجنة الامتحان لاطروحتي وكانت أشدهن عناداً علمياً وتحدياً بحثياً وأسئله ذكية في ذلك الامتحان.
وفي ظني والله أعلم أن هناك بعض القضايا يعتبر السكوت عنها تواطؤاً فيها وضدها. وان كان الكثير من مواقف هذا التواطؤ قد لا ينشأ عن عمد أو قصد، بقدر ما يأتي نتيجة لسوء تقديرات الفرد لدوره في الاصلاح أو لسوء تقدير الفرد والجماعة لذلك الدور ولمدى فعالية التعبير عن الرأي في مثل تلك المواقف اليومية أو أكبر منها. وهذا قد يأتي من الشعور بعدم الجدوى «العملية» بعملية التعبير بالرأي في تصحيح وضع قائم أو ظالم أو في تجنب اخطاء ترتكب فيه وبحقه حتى وان كان الأمر يمس المصلحة العامة. ومن هنا تتفشى روح عدم المبالاة أو ما يعرف في المصطلح الاجتماعي الأجنبي ب Apathetic - attitude تجاه مسائل قد تكون بسيطة الحل وشديدة المساس بحياة الأفراد بل وبالمجتمع. كما أن منشأ مثل هذه اللامبالاة قد يكون بسبب ضيق الهامش الاجتماعي عن استيعاب رأي آخر أو عدم اتاحة الفرصة للمبادرات أو عدم حمل آراء الناس ومقترحاتهم محمل الجد في مسائل أو مشاكل قد يعرفونها ويعرفون سبل حلولها بحكم التجربة والمعايشة أكثر من معرفة أصحاب الرأي البعيدين عن معاناة الواقع.
وبالإضافة إلى هذا وذاك من أسباب المواقف السلبية التي قد تنتج تكريساً لكثير من السلبيات على مستوى سلوك الفرد أو الجماعة دون أن يدري أي منا أنه بالصمت عنها مساهم فيها، عدم الشعور بجدوى التعبير أو المشاركة بالرأي لدى المعنيين. وكذلك قد يلعب عدم الشعور بالأمان الشخصي والاجتماعي تجاه التعبير ولو بالشهادة أوالرأي. ناهيك عن الخوف على مصلحة او الرجاء في أخرى. ويلعب أيضاً عدم المعرفة بوجود قنوات مرجعية أو قانونية محددة لمثل هذه القضايا، التي يمكن أن تضطلع بسماع الشكوى فيها أو اتاحة الرأي الآخر حولها أو عدم وجود مثل هذه القنوات اصلاً دور حاسم في استمرار اللامبالاة والسلبية.
أرى صناديق المقترحات والشكاوي في كثير من المرافق العامة وأرى الناس يمرون بجانبها كاظمين الغيظ لا يلون على شيء فلماذا؟؟!!
|