منذ سنوات زارنا مجموعة من الكتاب العرب، لحضور مهرجان الجنادرية، وقد لاحظت أن هؤلاء الكُتّاب، الذين تربطني ببعضهم صداقة حميمة، يختفون كل مساء، ولا أراهم إلا في الفترة التي تسبق الفعاليات الثقافية، أما المساء فهو مخصص لنفر من كتابنا، الذين يأتون لأخذ من يحبونه، أو يأملون من ورائه كلمة نقد أو اطراء، وحال انتهاء المهرجان، والأصدقاء يلملمون أغراضهم، استعداداً للرحيل إلى بلدانهم، حانت لي جلسة مع بعضهم، خرجت منها وقد ازددت غماً على غم، فقد اتفق كل من جلست إليهم، بأن من قابلوهم أو أغلبهم من مثقفينا، يعيشون في حالة مأساوية، فلم يمدح أحد أحدا، ولم يقل أحد في أحد كلمة طيبة، بالذات إذا كان هذا الأحد ليس من أفراد الشلة، بل إن أفراد الشلة تطاير رشاشهم على بعض، كل ذلك دون أن يشعر أي شخص، بالكره الذي يضمره له الآخر، لقد قال لي أحدهم: كنا نظن أن المستنقع الذي لدينا كبير، لكننا وجدنا مستنقعكم أكبر وأشمل.. كان الله في عونكم!
ومن التصاقي بطبقة المثقفين أو الأدباء على وجه الدقة، وجدت أن مجرد مساعدة أو مساندة أديب لأديب، لا تؤخذ من الطرف الآخر بحسن نية، فلا بد أن أحدهما يريد استغلال الآخر، فمن الخطأ الفادح أن يشتغل الأديب على سبيل المثال - ناشرا للكتب، لأن أي كتاب ينشره سوف يجعل مؤلفه يعتقد، أن زميله - مثله مثل الحرامية - جنى الآلاف من كتابه، لكنه يضن عليه بالفتات من هذه الآلاف، حتى لو اطلع على قوائم التوزيع وسأل وتقصى، سوف يبقى في نفسه شيء يقول له، إن هناك قناة أخرى يتساقط منها المزيد من المال، الذي تحققه مبيعات كتابه في الأسواق، أما إذا تقاعس الزميل عن تقديم أي شيء، أو قدم شيئاً قليلاً فإن رائحة المؤلف سوف تتصاعد وتتصاعد، ولنلق نظرة على دور النشر ولنسمع ما يقوله الكتاب، عنها وذلك يكفي، لكن الغرابة من الجهة الأخرى أن هذا الأديب الذي ينال من ذمة الناشر في كل مكان، يذهب من الخلف ويدفع لناشر آخر، لكي ينشر له كتبه، بمعنى أنه يطلب منه أن يسرقه، ولم أقف حتى الآن على حل لهذه الازدواجية!!
أما اشتغال الأديب في الهم العام، لخدمة زملائه، فهو مدعاة للقلق، لأن هذا الأديب سيجد أنه يمشي في حقل ألغام، بدلاً من كلمات الشكر والامتنان، حتى يترك الرجل كل شيء، لشخص ليس له علاقة بالأدب، والأدباء، هذا الشخص يأكل طالعاً ونازلاً، وبدلاً من أن يوفر شيئاً للأدباء، فإنه يبلعهم واحداً واحدا، والقرش أو المكاسب التي كان يحققها لهم زميلهم يصبح مع الشخص الآخر.. نادرا!
والأدباء ما غيرهم نادرا ما يتفقون على شيء، وهم صورة مصغرة لعامة المواطنين، مع أن المفروض أنهم يشكلون بوصلتهم وضميرهم ونورهم الذي من المفروض أن يسيروا على هداه.. لكن الواقع يقول إن على الجميع تجاه الأدباء أو المثقفين أن يستفيدوا من أقوالهم ويتركوا.. أفعالهم!
حتى تكريم بعض الأدباء يتحول أحياناً إلى مأساة، فسوف تجد دائماً من الأدباء من يشتكي من تجاهل الناس والمجتمع له، لكن حالما تقام حفلة لتكريم هذا الأديب، فإنه يبدأ في تفصيص ما يقدم له من هدايا عينية ونقدية، وربما أرسل الرسائل والبرقيات، خوفاً من أن يكون هناك مخصص أو هبة، وليس ببعيد قصة ذلك الأديب، الذي أقام الدنيا وأقعدها، لأنه فاز بجائزة «صدام حسين» مناصفة، ولم يهدأ له بال حتى منح قيمة الجائزة كاملة، وعند أول فرصة عمد هذا الأديب إلى الاعلان في الصحف عن رفضه لتلك الجائزة مكتفياً.. بقيمتها المادية!
وذلك الأديب نفسه كان عندما يزور أي بلد عربي يمنح دور النشر الحكومية، حق نشر كامل مؤلفاته، ناسياً أو متناسياً، بأن هناك حقوقاً للناشر، وآداباً يجب أن يتحلى بها مع البلد الذي دفع له ثمن كتبه مقدماً، ولمدة معلومة، لكن هذا الأديب يرمي بكافة العهود خلف ظهره لأن الجميع.. حرامية، حسب منطق بعض الكتاب والأدباء حتى الذين يكرمونهم!!
ونادراً ما تجد أديباً يعطي بقدر ما يأخذ، لكن هذا ليس قاعدة فهناك أيضاً من يفضل الظل، ابتعاداً بنفسه وأدبه عن كل ما يشين، بل إن هذه القلة من الأدباء، إذا رزقها الله بسطة في الرزق، تتبرع ببعض ايراداتها بصمت، ليس بنشر كتاب، أو اصدار مجلة، ولكن ببناء مدرسة، أو مستوصف، في قرية نائية، وهذا هو المطلوب، وهذا هو الأديب الحقيقي، وإلا فلماذا أطلق عليهم ضمير الأمة، والمشعل الذي يهتدى بنوره لكل ما هو حق وخير وجميل!
فاكس: 4533173
|