ويمضي قطار الصيف في أبها هادئاً آمنا في حركته الصاخبة، هانئا بفاعلياته السامقة، تحرسه عناية الرحمن بزخات المطر تنعش المصطافين، وغلالات الندى والضباب تجلل سماء الحالمين، ولأنعم الله السابغات تلهج ألسنة الحامدين الشاكرين، وهم يرون العالم من حولهم تتخطف فيه المنايا الألوف حرقا وغرقا، وإعصارا ولهبا، إذ تحمل قوافل الإعلام أحزان الإنسانية المذعورة وآلامها في صور ضحايا الحر الشديد المقيت المميت، وانقطاع الخدمات الأساسية في قلب الحضارة المادية، وحصاد الحروب الأهلية.. إلى غير ذلك من صور الفزع المتعددة.. المتمددة في غير موقع من العالم.
وفي الوقت الذي ينعم فيه الناس هنا بإجازتهم الصيفية بين دوحات عسير، وأنعم رب كريم آمنين مطمئنين، تحمل إلينا وسائل الإعلام ما يقع في كثير من الأرجاء من كوارث ووفيات بالجملة جراء موجات الحر القائظ، وحرائق الغابات المنتشرة في بعض البلاد، والسيول الجارفة، والحروب الأهلية الدائرة والمهددة لبعضها الآخر.. وهي أمور قدرية لعلها تلفت الانتباه فيما تلفت من أمور جوهرية إلى مزايا السياحة الداخلية الآمنة، وتحذر من المخاطر التي تتعرض لها طيورنا المهاجرة إلى الخارج للسياحة، لاسيما إذا أضفنا إلى كل ذلك الكوارث الطبيعية والبشرية، نظرة العالم الآخر الغربي على وجه الخصوص إلى العرب والمسلمين بعد أحداث سبتمبر التي غدت مبررا لاتهام كل ما يحمل الهوية العربية والإسلامية على المدى الأبعد تعميما.
على أية حال عاشت منطقة عسير أفراح الصيف وأعراسه ممثلة في الفعاليات والأنشطة المتعددة الأغراض، الممتدة بمظلتها على كل الأعمار والاهتمامات. وكان من أبرز فعاليات البداية في ملتقى أبها هذا العام، حفل جائزة أبها التي لم تعد اعتبارا من هذا العام جائزة المليون فحسب، بل أضيفت إليها جائزة إمارة منطقة عسير للتعليم العام والعالي ذات النصف مليون ريال، ليصبح إجمالي جائزة أبها مليونا ونصف المليون ريال، للشباب طلبة وطالبات منها مليون ريال بالتمام والكمال.
أما مسك ختام الملتقى فكانت جائزة «المفتاحة» التي خرجت عن عباءة جائزة أبها، واتخذت لنفسها نهجا يركز على نفي غبار النسيان عن مبدعين ورواد أثروا الحياة الإنسانية في وطنهم، لكن لأن الزمن يعفو أحيانا عمن ملأوا الدنيا بأخبارهم يوما، تأتي «المفتاحة» الجائزة لتسلط الأضواء عليهم من جديد في حفل يحتشد فيه الناس لذلك، وكأنهم بالحضور المكثف هذا يعتذرون عن مرحلة النسيان!
ونرى الكثيرين من هؤلاء الأفذاذ تختنق الكلمات في دموعه حتى لا يستطيع من شدة تأثره أن يعبر عن حجم اعتزازه بهذا التكريم، رأينا ذلك رأي العين في أكثر من عام، بدءا من إبراهيم خفاجي الشاعر الفذ رحمه الله ، وانتهاء بفهد عافت الذي اكتفى هذا العام بأن يغالب دموعه المتحجرة، بعبارة مفادها أن استلامه جائزة المفتاحة من يد الأمير خالد الفيصل، حدث لا يزاحم في حياته.
وفضلاً عن هذه القيمة الإنسانية النبيلة التي تتسم بها وجهة جائزة المفتاحة، فإنها نالت إعجاب ضيوف أبها من الغربيين الذين حضروا حفلها هذا العام وأثنوا على تنظيمها ثناء عاطرا، مؤكدين أنهم لم يتوقعوا جائزة بهذه القيمة والقامة أن تقوم لها في السعودية هذه القائمة.. ناهيك عن أن تكون في أبها!!
واليوم أو غدا ينصرم حبل الصيف في عسير ويعود الضيوف إلى مقارهم وفي عين كل منهم دمعة تنحدر حزنا للفراق، وحلم يلمع أملا بالعودة، وعسير في المقابل تطور آلياتها للسياحة الشتوية في أنحائها المؤهلة، لتمد بساطها صيفا وشتاء لزوارها على مدار العام.
حفظ الله على هذه البلاد أمنها وأمانها في ظل مولاي خادم الحرمين الشريفين وحكومتها الرشيدة.
|