وإشكالية المواجهة أن البلاد بإزاء الشيء ونقيضه، فالذين يدَّعون عداءهم للصهيونية، يواجهون البلاد بقدر ما تواجهها به الصهيونية، وليس من المعقول أن يجتمع الشتيتان، ثم لا تكون ريبة، وليس الارتياب من افتراءات (الصهيونية العالمية)، الحريصة على إشعال الفتنة ضد العالم العربي بأسره، وضد المملكة على وجه الخصوص، وعلى تأليب الرأي العام العالمي ضد من تتوقع تأثيره على القرارات الدولية، وإنما الارتياب من التخندق معها، والكيد معاً لدولة ليست بدعاً من الأمر. والمعممون في نيلهم ليسوا كالمحددين، والموثّقون ليسوا كالمتخرصين، وما من عاقل يبرئ نفسه الأمارة بالسوء، ولكنه لا يرضى تحميله ما لا يحتمل، وأخذه وهو مقيم دون الفتنة مع الظاعنين إليها، والعتب ليس على من يلوم على التقصير، ولا على من يستحث الخطى، ولا على من يطلب الإصلاح، وإنما هو على من تتلاحق افتراءاته الآثمة، متواشجة مع الطرح الصهيوني الحاقد. وما أنكى أن تجد زيداً المسلم مع (بنيامين) اليهودي، يُريشان معاً سهاماً كثيرة، ثم لا يجد حرجاً من تصويبها لمن علمه الرماية ونظم القوافي:-
(ولو كان سهماً واحداً لا تقيته
ولكنه سهم وثان وثالث)
فهذا (برنارد لويس) المستشرق اليهودي الأمريكي، يقول، كما نقله (جهاد الخازن):- (إن السعوديين الوهابيين ينفقون أموال النفط لتمويل الإرهاب) وهي ذات المقولة التي أطلقها (القذافي). والمؤكد أن (لويس) لا ينطلق من فراغ، بل هو مجند صهيوني لتعبئة الرأي العام الأمريكي ضد المملكة التي تتعرض للإرهاب، وتعاني منه قبل أمريكا. والصهيونية العالمية تعرف متانة العلاقات السعودية الأمريكية، وتعرف أنها لن تسيطر على الرأي العام الأمريكي ولا على المؤسسات التشريعية والتنفيذية بالقدر الذي تريده، إلا إذا نسفت هذه العلاقات، وجعلت المملكة غير مرغوب فيها، والصهيونية لم تقنع بما أُعطيت من (حق الفيتو) و(اليمين المتطرف) و(أحدث ما تملكه الترسانة الأمريكية). وهي إذ تحارب الإسلام لذاته، تخادع المغفلين بمحاربة (الوهابية). لقد اخترقت (اللوبيات) المناوئة المجالس التشريعية والتنفيذية، وكسبت مؤيدين مؤثرين في الإدارة (الأمريكية)، حتى لقد حمَّلت البلاد جانباً من أوزار التفجيرات في (أمريكا)، وما أحد من إعلاميي الشتات العربي تمعر وجهه من هذه الاتهامات، وعرف أن المؤامرة ضد الإسلام، وما أحد من المتباكين على مصالح الأمة العربية سأل نفسه عن دوافع هذه الحملات الشرسة ضد الحكومات والشعوب الفاعلة.
ومما لا شك فيه - والحالة تلك - أن وراء هذا التوافق في المواقف ما وراءه، فإما أن تكون الصهيونية قد حسبت الشحم ممن شحمه ورم، فتصدت للمملكة، دونما وعي بحقيقتها، وإما أن يكون الأقربون يغمطون المملكة حسداً من عند أنفسهم، و(قديماً كان في الناس الحسد) وما أشد مرارة الظلم، تتجرعه البلاد من ذوي القربى، والمؤمل من رجال الإعلام وأرباب القلم تحشيد الإمكانات وتوحيدها، والانتقال بها من التنصل والاعتذار والاجترار المحلي إلى المحافل الدولية، وإطراح لغة التفاضل والتباهي، وممارسة الحوار الحضاري المتزن، المدعوم بالوثائق، المتودد بالحكمة والموعظة الحسنة، والسعي لكسب المناوئ أو تحييده لا إلى تصفيته. فالمملكة تملك مشروعيات كثيرة، ومن الخير لها ألا تشوبها باللجاجة والتوتر.
وكتاب آخر ل(دوري غولد) يهودي صهيوني يتحدث فيه عن دعم المملكة للإرهاب، ويتطاول فيه على الدين الإسلامي.
هذه الحملات المنظمة المركزة، تتم في المحافل الدولية، والمعنيون في غفلة عن هذا. والمؤلم أن من أبناء المسلمين من يساير الصهاينة في النيل من الإسلام والمسلمين، وعدم التحرج من وصف المملكة بالعمالة والتواطؤ، فيما يغفلون عمن حولهم من المعترفين والمطبعين والمهرولين والمتبادلين للمصالح في وضح النهار. وما شيء من ذلك فعلته المملكة، ولو تبدى لنا ما نراه من غيرها، لما وسعنا السكوت فضلاً عن المسايرة. والمملكة تكاد تكون الوحيدة التي تضع كل بيضها في سلة القضية الفلسطينية، اعترف غيرها، ولم تعترف، وطبع غيرها، ولم تطبع، وتملق غيرها، ولم تتملق، ووعد غيرها ولم يعط، وأعطت المرة تلو الأخرى. حتى لقد بلغ المواطن حداً من اليأس والإحباط، وفضل أن يكون سمننا في دقيقنا، فالمواطن يعاني من بوادر الضوائق والبطالة ما يجب معه التحرف السليم. والطفح الرخيص من ساقط القول، وبذيء الكلام، لم تصنعه الصدف ولا العفوية، وإذا قلنا بالغزو أو بالتآمر، أنكر ذلك علينا المستغربون، وعدُّونا اسقاطيين، نبرئ أنفسنا، ونتهم غيرنا. وما تلاحقت الثورات، وما توترت الحدود، وما استفحلت الطائفيات، وما لعنت كل أمة أختها إلا نتيجة اللعب الكونية. وما الواقع العربي المؤلم إلا ربيب مكائد يمسك بعضها في رقاب بعض، منذ الامبراطورية التي لا تغرب الشمس عن ممتلكاتها، حتى زمن القطب الواحد، وما الحروب التي كانت (العراق) طرفاً فيها إلا حروب بالإنابة، في أجوائها حصد المغتصبون الشرعية والاعتراف والتطبيع. وأول مطلب واجه به (بريمر) مجلس الحكم العراقي الاعتراف بإسرائيل، فهل شيء من ذلك جاء اعتباطاً، نعم الأمة العربية مدانة بقابليتها للعب، ومدانة بارتمائها في أحضان الغير، وتصديقها لأعدائها، ومدانة بتهافت أبنائها على المدنية الزائفة والحضارة الوضعية المادية، ومدانة بتقصير علمائها ومفكريها في تفكيك الطارف والتليد، واتخاذ الطريق القاصد والموقف المتزن والتفاعل الإيجابي، ومن ثم فإن هناك غزواً وتآمراً، وهناك قابلية عربية لذلك، وقولنا بالغزو والتآمر ليس للتبرئة، وإنما هو لأخذ الحذر والنفور للمواجهة.
والدولة التي يخترق أجواءها الإرهاب من كل جانب، بحاجة إلى أن تفكر وتقدر، وأن تعرف أنها مستهدفة: إعلامياً وأمنياً وسياسياً واقتصادياً وفكرياً، وأن ما أصاب غيرها من تدمير للمثمنات، وتبذير للثروات، وتشتيت للكفاءات، وإخلال بالأمن، وخلق للعداوات سيطالها دخنه، فإن كانت لديها قابلية استفحل، وإلا كمن كما الخلايا النائمة، في انتظار تصدع القشرة، والمؤكد أننا دخلنا دوامة الإرهاب، وأصبح ظاهرة مخيفة، ودخلنا دوامة التصدع الفكري، وهذه الأحداث النافذة علينا من كل جانب بحاجة إلى (مكافحة) و(معالجة).
- فالمكافحة مسؤولية رجال الأمن والمباحث والطوارئ.
- والمعالجة مسؤولية رجال الفكر والعلم والتربية والإعلام.
ولا أشك أن فلول اللعب (الأفغانية) و(الحروب الخليجية) المطاردة من قبل أمريكا التي أسقطت الشرعية في (أفغانستان) و(العراق)، ولم تنجح في سد الفراغ الدستوري، ولا في إحكام القبضة، هذه الفلول قد عادت إلى أراضيها جذعة، تحمل الفكر الجهادي والعقيدة التكفيرية، على غير هدى من الكتاب وصحيح السنة، وكان اللاعب الأكبر قد بارك (التكفير) و(الجهاد) حتى قضى بهما وطره، وحسب الناس أن هذا الفكر المتعسكر، وتلك العقيدة المتشددة، ستنتهيان بانتهاء اللعب الكونية، ومن ثم كانت غفلة المؤمن، واسترخاء الواثق عن الثغور وعن الأدمغة، ولو لم تكن الغفلة من الطرفين لما نفذ العتاد إلى البلاد بهذا الحجم، ولما عشعش الانحراف في الأدمغة بهذه القوة، ولما التقى الوباءان على قدر، لتكون محاولة الإخلال بالأمن، وتصديع الوحدة الفكرية والدينية والوطنية التي لم تتحقق، ولكنها تنذر بالخطر، وما لم يلتق الطرفان: رجال الأمن، ورجال الفكر، لرسم خطة محكمة، وأسلوب رشيد، تفلتت من بين أيديهم خيوط المشكلة، ووجد الموتورون أرضية مناسبة لصناعة محكمة، تفجر الأوضاع، وتنسف الأمن، وتشتت الفكر. إذ بقدر ما يحكم رجال الأمن الطوق، ويجوِّد رجال الفكر القول، يمكن تطويق المشكلة، وإن كنا نتوقع السباق بين الجريمة والمكافحة.
والإرهاب غنوصي التصرف، سِرِّي التخطيط والتنفيذ، تقضي أموره تحت الظلام الدامس، وفي أعماق الكهوف المظلمة، ولا يقرؤها الناس إلا في بيوت مهدمة، ونفوس مزهقة، وأمن مختل. ولهذا لا بد من التقدير والتدبير، واستباق الأحداث، والتوقي، ومباغتة المناوئ قبل أن يغدر أو يفر. ولن يتمكن رجال الأمن من قطع شأفة الإرهاب بإمكانات عادية، أو إجراءات روتينية، ودون مؤازرة من العالم والمفكر والمواطن، واتخاذ فسحة من الحوار الحضاري الذي تسوده الثقة، وتحكمه القيم، وتسمو فوقه مصلحة الأمة، وفوق كل ذلك فإن العمل الإرهابي حدث استثنائي، لا بد له من مواجهة استثنائية، ورجل الأمن روض نفسه على مواجهة الوقوعات العارضة، مما لا يبيت لها بليل، أما وقد دخلت البلاد في دوامة الإرهاب المنظم، والتطرف المتعنت، وأصبحت اللغة (الديناميتية) هي لغة التخاطب، فإن أحداثاً وحوادث جديدة ستواجه رجل الأمن ورجل الفكر على حد سواء، وستربكهما. وقوة الطوارئ، وفرق المداهمة، والأجهزة والآليات، وسائر المؤسسات التعليمية والثقافية والإعلامية بحاجة ماسة إلى تمكينها من التوفر على أعلى الكفاءات، وأحدث الأجهزة، وأدق التدريبات وأحدثها وأوسعها، حتى لا تفوتهم فلول الإرهاب، ولا يسبقهم دعاة السوء، وحتى يتمكنوا من استيعاب الطرفين أو قطع دابرهما. إن هناك إرهاباً قوامه السلاح الفتاك، وتطرفاً قوامه الكلمة المؤثرة، ولكل ظاهرة ما يناسبها من المواجهة، ولا بد - والحالة تلك - من رجل استثنائي، وتخطيط استثنائي، وعمل استثنائي، وإمكانات بشرية وآلية وإجرائية استثنائية، وحركة فورية في اتخاذ القرار، ومرونة في التصرف، تستجيب لمتطلبات المرحلة الحرجة، فنحن أمة لها مكتسباتها، ومثمناتها، وقواعدها الاقتصادية، وقلاعها الحضارية، واستهداف هذه المنجزات من السهولة بمكان، وتعرضها للتفجير حتماً سيعرض البلاد لخسائر فادحة.
ورجل الأمن أمام هذه الطوارئ يعيش مرحلة تحد عصيب، فإما أن يسيطر عليها باقتدار، ويلملم خيوط الممارسات الإرهابية التي اندلقت أقتابها بين أيدينا، ويعيدها إلى قمقمها الذي انفلتت منه، وإما أن ندفع الثمن الغالي.
لقد دوت الانفجارات فاستغربنا، ودوت ثانية فذهلنا، ودوت ثالثة فتساءلنا، وتحركت أجهزة الأمن، تطارد فلول الهاربين، وتساقطوا في يدها الواحد تلو الآخر، وكان في ذلك نصر مبين، ولكنه كشف عن ثغرات أمنية، أثق تماماً أنها حاضرة المسؤول، ولكن المواطن بوصفه ضحية الخلل، يسبق بتساؤله، ومن حقه أن يلح في التساؤل، ومن واجب المسؤول أن يسمع، وأن يهدئ الروع، ويطمئن النفوس القلقة، فالمسألة ليست عادية، لا على المستوى الفكري، ولا على المستوى الأمني، وإذا تحملنا، وقبلنا ما دون ذلك من الخلل، فإننا لن نقبل بالمعدات الثقيلة، تزيح الأتربة عن مئات الأطنان من المتفجرات المطمورة في باطن الأرض. أين رجال المنافذ الحدودية؟ وأين خفر السواحل؟ وأين الحوامات؟ وأين العيون الساهرة؟ نحن نجزم بل نراهن على أنهم لم يخونوا أماناتهم، ولكننا لا نستطيع التغاضي عما عثر عليه من وسائل التدمير، وما ظهر من شذوذ التفكير، ولن نقبل التصدع الفكري في بلد السلفية الناصعة بمحجتها البيضاء، أين العلماء؟ وأين التربويون؟ وأين أساتذة الجامعات؟ وأين الخطباء؟ ولماذا يُتخطف أبناؤنا من بين أيدينا، ونحن غافلون؟ في بلادنا إرهاب في الفعل، وتطرف في التصورات والمعتقدات وعلينا أن نواجه قدرنا بثقة واعتراف، وأن نرسم الخطط البعيدة المدى، وأن نعيد النظر في كل شيء، نسائل العالِم قبل الضابط، والمعلم قبل الإعلامي، كي يستقر الجميع على أرضية صلبة، وإذ نتفق على أن تربيتنا ومناهجنا مبرأة من صنع التطرف فإنها مسؤولة عن عدم الحماية.
السؤال الذي ما كنا نوده: لماذا امتلكت أجهزتها الأمنية القدرة الفائقة في الإجهاز على عدد كبير من الخلايا في وقت قياسي؟ في حين تمكن الإرهابيون في زمن متطاول من تشكيل وجودهم، وجلب آلياتهم ومتفجراتهم، وتفرقهم في البلاد، وحصولهم على أفتك الأسلحة، رجال الأن الذين غفلوا غفلة المؤمن فنمت بذور الشر في غفلتهم، هم رجال الأمن الذين أثلجوا الصدور، ورفعوا الرؤوس، وحققوا من الانتصارات ما لم تحققه أي أجهزة متفوقة بالعدد والعدة، ورجال الشريعة وأساطين الفكر ورجال التربية الذين يتبادلون الراية منذ الحركة الإصلاحية، هم الذين يمسكون بمقاليد المؤسسات: توعيةً وإرشاداً وتعليماً وإفتاء. سؤال مشروع ولكنه محرج، نحن بحاجة إلى الشفافية والمساءلة، ولا نريد لأي مؤسسة أن تكون فوق المساءلة والمحاسبة والنقد، ما الخلل الذي نشأت في ظله الأفكار المنحرفة والأيدي الشرسة. قلت من قبل: إن التطرف والإرهاب وافدان، ولما أزل على شيء مما قلت، غير أن تنامي الإرهاب والتطرف، وشراسة المواجهة، بحيث يتساقط الشهداء من رجال الأمن في كل عملية مواجهة، كل ذلك يتطلب إعادة النظر في كل ما سبق، فحين لا يكون للتربية والتعليم دور في صناعة الإرهاب، فالواجب أن يكون لهما دور في التصدي له.
ولقد كنت في كل مواجهاتي النقدية أفرق بين (فساد المبدأ) و(خطأ التطبيق)، ومن ثم فإن الفساد لا يصلح معه الترقيع، إذ لا بد من نسفه والتأسيس من جديد، ولهذا فإننا والحمد لله نحسن الظن بمؤسساتنا، ونراهن على أنها تقوم على الصلاح والإصلاح والصدق والإخلاص، ولكننا لا نراهن على النجاح في كل ما تأتي وما تذر، ولأن الأيام حبلى يلدن كل عجيب، فإن علينا أن ننسق بين المؤسسات الأمنية والتربوية والإعلامية والدعوية والتوعوية، ووضع خطة جماعية تشكل تصوراً دقيقاً للواقع والمستقبل، وتباشر العمل بأسلوب الفريق الواحد، وما إنشاء (مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني) إلا بادرة حضارية، لها ما بعدها، والمواطن وحده القادر على إحباط أي محاولة بحسه الأمني، ويقظته ووعيه، إنه المسؤول الأهم، والجبهة الخلفية التي تحمي الساقة. وإذا كنار نثق برجل الأمن وبالمفكر وبالعالم وبالإعلامي، فمن الواجب أن نواجه الجميع بتساؤلاتنا الملحة، وأن نتحمل قسطاً من المسؤولية، ومن ثم يجب أن يَقْدُم المواطن كلَّ المسؤولين في المساءلة، ماذا قدَّم، وماذا ينوي أن يقوم به في ظل هذه التداعيات.
|