لا أقول إن الأستاذ العميد أثّر فيّ بإعجابه بالبشري، فولَّد فيّ إعجاباً بعيداً، غير أني قرأت الكاتب، وربما يومها لم أتوقف طويلا عند مقدمة الأستاذ العميد، لأن أسلوب البشري ساحر ورائع أخاذ، وفي تقديري أن القارئ الذواقة الذي يأخذ في قراءة «قطوف» البشري، سيجد ما وجدت، وما وجد الأستاذ العميد قبلنا، يجد إبداعاً وروعة عرض وأداء واختياراً وسبكاً، يجد متعة نادرة في العصر الحديث، والكاتب يعتبر مقلا، وهذا لا يحسب عليه وإنما يحسب له، ولا ننسى أن العرب قالت «إن المكثر غير مجيد»، وقد رأينا ذلك، ولا سيما في العصر الحديث من الشعراء والكاتبين الذين أكثروا، ضعف إنتاجهم وقل جدواه، ذلك أن الإنسان طاقة محدودة، فإذا حاول أن يتجاوزها، ظهر الضعف في عطائه، وقد قالوا: إن الإيجاز بلاغة، وإن خير الكلام ما قل ودل كما قيل!
الدكتور شكري فيصل أرانا إعجابه بمقدمة الأستاذ العميد، لأدب الكاتب المتميز عبدالعزيز البشري، حتى بلغ الذروة! إن الأدب الجميل الرائع، تدفعك نفسك وتلح عليك إلى أن تطيل الوقوف عنده، وأن تطيل تأملك فيه ما استطعت إلى ذلك سبيلا، لأن روعته وجماله يقسرانك بما يدفع نفسك إليه، ذلك أنه خليق بالاستمتاع الذي يملأ النفس بهجة وحباً، لأنه بديع، ولأنه ممتع أخاذ!
يدور حديث الأستاذ العميد، بعد تلك المقدمة للجزء الثاني من قطوف البشري، أما الجزء الأول فقد كتب مقدمته شاعر القطرين خليل مطران.. وحديث الأستاذ العميد المتجدد بعد عشرة أعوام من كتابة تلك المقدمة، جاء بعد صدور الجزءين من القطوف، وبعد رحيل البشري، فأتيح للأستاذ العميد أن يشرق وأن يغرب، من خلال ذكرياته مع صاحبه ولداته الذين رحلوا، وهو حديث فيه تأمل وفيه سبح في قضايا الموت والحياة.!
الحديث تعرض لنسيان الأحياء للأموات، والموت الذي «يلغي الزمن» وهناك من يموت وتبقى ذكراه في القلوب، ويشير الأستاذ العميد إلى ما سماه العقوق عند الذين ينسون من أحسن إليهم.. ويدفع التأمل في الموت والحياة والنسيان والعقوق، يدفع ذلك الأستاذ العميد إلى استحضار أبيات الشاعرة الخنساء وحزنها وبكائها على أخيها صخر، فتردد:
يذكرني طلوع الشمس صخراً
وأذكره لكل غروب شمس
ولولا كثرة الباكين حولي
على إخوانهم لقتلت نفسي
وما يبكون مثل أخي ولكن
أسلي النفس عنه بالتأسي
|
وإلى وقفة قادمة إن شاء الله.
|