Monday 18th august,2003 11281العدد الأثنين 20 ,جمادى الثانية 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

الرئة الثالثة الرئة الثالثة
زمان.. يا تربية!
عبدالرحمن بن محمد السدحان

تزورني بين الحين والآخر أطيافٌ من ذكريات التربية المدرسيّة في زمن الصبا.. يوم كانت المدرسةُ تحتضنُ كلَّ شبرٍ في ساحة وعْيِي، وكان الأملُ في الغدِ الموعُودِ يعانقُ كلَّ ذرةٍ في خَريطة احساسي.. الحاضرِ منه والبعيد، كنتُ أعتبرُ المدرسةَ في ذلك الزمن (مصنعاً) تربوياً تنْصَهر في بوتقتِه سَوْءاتِ المفاهيم والسلوكيات الخاطئة التي تفرزها (تربيةُ) البيت والشارع، وفي المدرسة التقيتُ وجْهاً لوجه مع (صحوة) الرجُولة المبكرة (وصَبْوة) الشباب، وكانا يفْرزان في خاطري رحيقاً عَطِراً يمتزجُ فيه نموُّ البَدَن.. مع انتفاضِة الروح تطلّعاً نحو غدٍ يتحول فيه دفءُ الأحلام إلى وقائعَ تنعمُ بها كل الحواس!
***
واليوم.. أقتطفُ من تلك الذكريات موقفيْن أُهديهمَا إلى جيل هذا الزمن الذي (تَعوْلمَتْ) فيه هُويّتُه أشتاتاً، وباتَتْ مهدّدةً إمّا بالاعتكاف في زوايا المثاليّات، أو الأنفِْلات في لُجّة التقليد ل(الآخر) والضياع!
***
الموقف الأول
كانت نهايةُ الصف الأول الثانوي نقطةَ تحّولٍ هام إمّا إلى القسم العلمي أو القسم الأدبي، وكنتُ قد عقدت العزَم على الالتحاق بالقسم العلمي متأثّراً بتفوّقي في مواده، ونَصائِح المربّين والزملاء الأفاضِل
، وكانت هناك مقولةُ تتردَّدُ على الأسماع بأنّ الوطنَ العربي يشْكوُ الترّهُلَ في علم الكلام وفنونه ومشتقّاته، نثْراً وشعْراً، وأنِّ الرهانَ للمستقبل يجبُ أن ينصَبَّ على (التخصُّصِ العلمي).. ففيه الوعْدُ والسَّعدُ.. للفرد والأمة، وانْسَقتُ حماساً مع هذه المقولة، رغم أنني في قرارة نفسي كنتُ أَصْطفي الأدبَ والأدباءَ.. لغةً وكلاماً!
***
وتعْبرُ إجازةُ ذلك العام الدراسي كسَحَاب صيف، ليهلَّ العام الدراسيُّ الجديد.. وكنت قد أنْفقتُ معظمَ أيام تلك الإجازة (ضيفاً) على روائع الدكتور طه حسين، وإبّداعات الزيات، وعَبقريّات العقاد و(سيمفونيات) المنفلوطي رحمهم الله جميعاً. ولذا، كان الخيارُ النهائيُّ لصالح (القسم الأدبي).. وفوجيءَ مديرُ المدرسة.. وعددٌ كبير من أساتذتي وزملائي بذلك القرار، والبعضُ اعتبره تنكّراً لوعدٍ سابق بالانضمام إلى (الطابور العلمي).. لكنني برَّرتُ قراري بالقول.. إنَّ سطوةَ الكلمة الجميلة.. كَسِبتْ السِّجالَ في نفسي خلال اجازة الصيف!
***
وبدأَ العام الدراسي وأنا أعيذُ نفْسي من (فتنة) الأدب.. خشية ألاّ أكون قد اتّخذْتُ القرارَ الصائبَ، لكنني.. لم أندمْ قط، وكنت أردّدُ مع نفسي القولَ: مَنْ يدري.. لعل اللهَّ بحكمته قد كفى الوطنَ وأهلَه (وزرَ) طبيبٍ فاشلٍ.. أو مهندس كسولٍ! فصَرفني إلى الأدب هُوايةً، والإدارة دراسةً ثم احترافاً!
***
الموقف الثاني:
بقيتْ في خاطري ذكرى لا تغربُ شمسُها أبداً.. تتعلّقُ بمعلّم الدروس الدينية في الفصل الأول الثانوي، المرحُوم باذن الله الشيخ ناصر الحناكي، فقد كان يلقي درُوسَه.. بصوتٍ عالٍ يتجاوزُ صَداه جدرانَ الفصْل.. لكنّ إلقاءَه لم يكن ثقيلاً ولا مملاًّ ، فلغتُه جميلة لا تعاني تكلّفاً.. ولا تشكوُ لحْناً، وكان أحياناً (يخرج عن النص) تعْليقاً على بعض أحداث السَّاعة، محليّاً ودولياً.. وكانت (مداخلاتُه) حول الأحداث تتلّون نفسيّاً بحسَب مضمون الَحدَث.. فهي مرةً ساخرة، وأخرى ساخطة.. وثالثة، يمزجُهِا بشيٍء من الدعابة الضاحكة!
***
وكان من بين زملاء الفصل فنّانٌ في الرسم، قبل أن يتَحوّلَ مع السنين إلى مهندسٍ معماريّ ذائعِ الصِّيتِ. وكان هذا الزميلُ الرائع يمارس أحياناً (شقاوتَه) الفنيةَ اثناء حِصّة الشيخ الحناكي، فيرسمُ بريشتِه الشفّافة رسْماً جميلاً يدغدغُ به بعضَ (خصوصيات) الشباب المراهق.. ثم يَمرّرُه سرّاً بين الزملاء يُمْنةً ويسرةً، وكلُّ من رأى الرسم. اسْتسْلمَ لنوبةٍ من الضحك الخافت لا يبدّدُه، سوى نهرِ الشيخ الحناكي له، في الوقت الذي (نتستّرُ) فيه على (شقاوة) الفنان المبدع، فندّعِي الجهلَ بما حدَثَ حمايةً له، ثم يعودُ الشيخ بعد ذلك إلى حلمه وعلمه وظَرفه، قبل أن تعلن صفارةُ المراقب أنتهاءَ (الحصة) ونحن لا نكادُ نصدّق أنَها بدأت!

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved