من المعروف أنه لا يوجد شعب من الشعوب إلا وفيه أناس ينشدون الحق ويعملون من أجل إحقاقه، والشعب الأمريكي لا يشذُّ عن هذه القاعدة العامة فقد ظهر فيه أفراد رفعوا راية الإنصاف وانتقدوا ما رأوه من مواقف خاطئة جائرة ترتكبها حكومة بلادهم أو تتبناها جهات معينة من شعبهم.
بل إن من المرجح أن أغلبية الشعب الأمريكي أضلتها عن رؤية الحق قوى تأثير اقتصادية وإعلامية يعرفها الباحثون والمتابعون لسير الأمور تمام المعرفة.
ولولا ذلك الإضلال المؤثر لما سارت السياسة الأمريكية المسيرة التي تسيرها حتى أصبحت أكثرية شعوب العالم تنظر إلى أمريكا على أنها قوة متغطرسة لا ترضى إلا بخضوع العالم لإرادتها، وبات معظم قادة الدول يسايرونها لا اقتناعاً بصحة نهجها وإنما خوف من بطشها.
ورمزي كلارك، مؤلف الكتاب الذي يقدم كاتب هذه السطور قراءته، له شخصية أمريكية مرموقة وهو محامٍ نشط في مجال حقوق الإنسان ومعروف معرفة واسعة على المستوى العالمي.
وكان بصفته مساعداً للمدعي العام في الولايات المتحدة الأمريكية، ثم مدعياً عاماً فيها بين سنتي 1961 و 1968م قد ساعد في صياغة مواد القانون التاريخي الخاص بحقوق الانتخاب الذي صدر عام 1965م.
وهو مؤلف كتاب الجريمة في أمريكا الذي كان من أكثر الكتب مبيعاً عند صدوره ثم أصبح واحداً من أشهر المعارضين لاستعراض أمريكا قوتها في الخليج خلال استعداداتها العسكرية للحرب التي سُمِّيت عاصفة الصحراء وإبّان تلك الحرب سنة 1991م وإثر انتهائها أنشأ هيئة تحقيق تمهيداً لمحكمة جرائم حرب دولية.
وقد جمع شهادات من الذين نجوا من تلك الجرائم ومن شهود عيان ينتمون إلى دول مختلفة، وهي شهادات على تحطيم القوة العسكرية الأمريكية للحياة البشرية والبيئة، وتثبت مخالفتها للقانون الدولي.
وقد صدر الكتاب الذي تتناوله هذه القراءة في نيويورك عام 1992م لكن احتلال أمريكا ومعها تابعتها بريطانيا للعراق هذا العام يبرر الحديث عنه إلى حد ما وإن بعد عشر سنوات من صدوره، وبخاصة أن ما ارتكب في العدوان الأخير على ذلك القطر العربي المسلم لا تقل نتائجه الفادحة عما ارتكب ضده عام 1991م.
ويتكون الكتاب المتحدَّث عنه من 325 صفحة مشتملة على إهداء فشكر وتقدير لمن تعاونوا مع مؤلفه على إنجازه فقائمة بمحتوياته، ثم مقدمة فقائمة بتواريخ الحوادث المهمة في موضوعه فاثني عشر فصلاً ثم أحد عشر ملحقاً تليها ملحوظات وفهرست واف للأسماء والمواضيع.
وقد جاء إهداء المؤلف في بداية كتابه كما يأتي:
إلى الفقراء الذين عانوا - عبر التاريخ- العنف والموت والجوع والمرض والإهانة على أيدي الظلمة الذين لا يحترمون إنسانيتهم وبخاصة العراقيين والعرب والضحايا الآخرين للحرب مع دعوة للعمل على إنهاء مصدر الحروب والاستغلال الاقتصادي والمجاعة.
وفي مقدمة الكتاب تحدث المؤلف عن رحلته إلى العراق التي بدأها من العاصمة الأردنية، عمان، في شهر فبراير سنة 1991م عندما كانت القنابل الأمريكية ما تزال تمطر العراق وتدمر بنيتها الأساسية.
وقد وصف ما شاهده في طريقه إلى بغداد، وما عاناه فيها وما رآه في طريقه إلى البصرة.
ومما ذكره في تلك المقدمة أنه كتب وهو في رحلة عودته جواً إلى أمريكا رسالة إلى الرئيس بوش الأب، وأخرى إلى دي كولار سكرتير الأمم المتحدة، وثالثة إلى الرئيس صدام حسين، مفصلاً لهم ما رآه من أدلة على جرائم الحرب التي ارتكبتها أمريكا ضد العراقيين المدنيين، ومما قاله في رسالة إلى الرئيس بوش الأب: أوقفوا قصف المدن والسكان المدنيين فإن لم يكن هناك وقف لإطلاق النار فيجب أن يكون القصف مقصوراً على الاهداف العسكرية.
ومما قاله في رسالته إلى دي كولار: إن كارثة الحرب لن تتوقف ما دامت الأمم المتحدة لا تكترث بهذا الهجوم على الحياة.
إن هذه الهيئة يجب أن لا تكون معبراً إلى جرائم الحرب.
وبعد ان تحدث المؤلف في مقدمته عن إنشاء المحكمة؛ مشيراً إلى الهيئات والجماعات التي ساعدته في إنشائها ذكر أنها عُقدت في نيويورك مكونة من اثنين وعشرين قاضياً ينتمون إلى 18 دولة، وأنها توصلت إلى إدانة الولايات المتحدة الأمريكية وكبار مسؤوليها بتسع عشرة جريمة من جرائم الحرب، ومع أن أجهزة الإعلام الأمريكية تجاهلت تلك النتيجة فإن تلك الإدانة لقيت تغطية إعلامية واسعة في الصحافة العالمية.
وقد اختتم تلك المقدمة بحثِّه الجميع على العمل من اجل تفادي الحروب وإحلال السلام وقال:
«إذا علمنا ولم نعمل فإننا، حقيقة، لم نعلم وإذا عملنا فإن الحرب لن تكون مصيرنا».
وقد بدأ المؤلف قائمة تواريخ الحوادث المهمة المتصلة بحرب الخليج بذكر رسم بيرسي كوكس الحدود بين الكويت والعراق سنة1921م، ثم ذكر تأميم حكومة مصدق لشركة الزيت في إيران عام 1951م، وضرب الدول الغربية حصاراً على إيران فور ذلك التأميم.
ثم ذكر دور المخابرات المركزية الأمريكية CIA في الإطاحة بحكومة مصدق عام 1953م، ومساعدة نورمان شوارزكوف الشاه في تكون السافاك: الاستخبارات الإيرانية السيئة السمعة.
وبعد ذلك ذكر المؤلف أن حكومة البعث في العراق أممت شركة الزيت في تلك البلاد عام 1972م، وأن مستشار الرئيس نيكسون للأمن القومي كيسنجر تآمر مع شاه إيران لتسليح اكراد العراق كي يضعف حكومتها، ووضعت في قائمة الدول التي تساند الإرهاب.وفي عام 1980م بعد الإطاحة بالشاه في العام السابق لذلك التاريخ أعلن كارتر ما سُمِّي «مبدأ كارتر» القاضي بأن تتدخل أمريكا عسكرياً في منطقة الخليج لحماية سبيلها إلى مصادر النفط، وكُوِّنت قوة التدخل السريع لتنفيذ ذلك المبدأ، وفي العام نفسه غزت العراق إيران بموافقة أمريكية ضمنية.
وبينما كانت الحرب بين العراق وإيران على أشدها سنة 1982م، أسقطت أمريكا اسم العراق من قائمة الدول المساندة للإرهاب، ثم أعادت علاقاتها الدبلوماسية معها كاملة بعد سنتين من ذلك التاريخ، كما بدأت التعاون المخابراتي السري معها.
وفي عام 1987م عُيِّن شوارزكوف رئيساً لقوات التدخل السريع، وبدأت أمريكا تتدخل في الحرب بين العراق وإيران بحراسة السفن الكويتية في الخليج وقصف أرصفة تصدير النفط الإيرانية.
وفي عام 1988م توقفت تلك الحرب، وفي العام الذي تلاه عدلت الخطة 1002م، التي وضعت أساساً عام 1981م لمواجهة الخطر السوفييتي المفترض، لتجعل العراق هو التهديد للمنطقة.
وفي بداية عام 1990م أقام مركز قوة التدخل السريع حرباً بالحاسب الآلي وفق التعديل للخطة المشار إليها، وحذر شوارزكوف مجلس الشيوخ الأمريكي بأن العراق قادرة على التهام جيرانها.
وفي الثاني من اغسطس احتل جيش صدام الكويت، فسارع الرئيس بوش الأب إلى منع بيع أي شيء أمريكي إلى العراق، وجمّد أرصدتها، وأعقب ذلك صدور قرار من مجلس الأمن يقضي بمقاطعة العراق عالمياً وتجميد أرصدتها مما كان له عواقب ضارة جداً بالشعب العراقي.
ثم أعلنت الإدارة الأمريكية أنها مرسلة بأربعين ألف جندي إلى المملكة العربية السعودية بدون أخذ موافقة الكونجرس وتوالى إرسالها القوات حتى وصل عددها إلى أربعمائة ألف.
وفي السابع عشر من يناير عام 1991م بدأت أمريكا ومعها بعض دول التحالف وإن لم يذكر ذلك المؤلف الهجوم الجوي على العراق، وهو الهجوم الذي استمر اثنين وأربعين يوماً بمعدل ألفي طلعة يومياً.
وبعد شهر من بداية ذلك الهجوم قامت أمريكا عمداً بقتل 1500 مدني بغارة جوية على ملجأ العمارية ببغداد.
وفي الحادي والعشرين من فبراير أعلن الاتحاد السوفييتي أن العراق وافق على الانسحاب من الكويت بدون شروط، لكن أمريكا أصرت على أن يتم ذلك الانسحاب قبل ظهر يوم الثالث والعشرين من ذلك الشهر وإلا فإن العراق ستواجه هجوماً برياً.
وحدث الهجوم الذي أصرت أمريكا عليه رغم بداية جيش الاحتلال انسحابه.
وفي الثامن والعشرين من الشهر المذكور وافقت أمريكا والعراق على وقف إطلاق النار لكن قوة من الجيش الأمريكي قتلت آلافاً من الجنود العراقيين بعد أربعة أيام من ذلك التاريخ.
|