في خضمّ المهور العالية التي تتجاوز الخمسين ألفاً، وحفلات الزواج الكبيرة التي تشهد لياليها اجتماع مئات الناس رجالاً ونساء، وترى أضواؤها الصاخبة عشرات الرؤوس من «الغنم» والعجول، تذبح في كل ليلة، وعدداً لا بأس به من الجمال تنحر، وتطبخ وتوضع «باركةً» في إناء كبير يجتمع عليها عشرات الناس في صورة تذكرنا بصورة الأسود حينما تجتمع على فريستها بعد ان تطاردها ساعة من زمن.
في ذلك الخِضَمّ الموّاج، الذي يحتفل فيه الناس بحفلات الزواج احتفالات أصبحت «روتيناً» ثقيلاً مملاً يشكو منه الجميع، ويحضره الجميع، ويتمنّى التخلّص من أعبائه الجميع، وتذهب أصوات من ينادون بالاقتصاد والاختصار أدراج الرّياح والأعاصير، وليس لهم من منصت ولا مستجيب.
في ذلك الخضمّ المضطرب من ولائم الرزّ واللحم والشحم، وملابس النساء التي تذكّر بحفلات عرض الأزياء، وذلك التباهي بالأطقم الغالية والرخيصة من الذهب والفضة، وجميع أنواع الجواهر الثمينة وغير الثمينة، والأزياء الرزينة وغير الرزينة..
في ذلك الخضمّ المائج من التباهي بالمظاهر الذي يشترك فيه الأكابر والأصاغر، شهدت مدينة صغيرة هادئة على إحدى قمم جبال السروات اسمها «المَنْدَق»، مدينة صغيرة أنيقة، حظيت بنصيب جيد من التطوّر العمراني الذي تزدهر به معظم مناطق المملكة ومحافظاتها، تقع في بلاد «زهران» على مقربة من موطن الطفيل بن عمرو الدوسي، وأبي هريرة رضي الله عنهما، مدينة جميلة مشرقة، لا تملُّ جبالها الشاهقة من معانقة السحب، ولا تتخلّى أشجارها السامقة عن الخضرة والبهاء، والجمال والرّداء، شهدت هذه المدينة الزّهرانية عملاً جليلاً، أشرقت به روابيها، وسعدت به مغانيها، عملاً يستحق الإشادة والتقدير، والإعجاب الكبير، ويستحق من قام به الشكر والدّعاء له والاقتداء بعمله الجليل.
بيتٌ يرعاه رجل ذو عقلٍ وبصيرة تقدّم إليه شاب ميسور الحال، معروف بالخير والاستقامة بين الرجال، خاطباً إليه ابنته، فرحّب الرجل به، وضرب له وعداً مسائياً لعقد القران، وحينما حضر الشاب ومن معه من الأهل، والمأذون الشرعي وبعد ان كتب العقد المبارك، سأل المأذون والد الفتاة كم مهر ابنتك، وانتظر الشاب كلمة والد خطيبته التي يتوقعها ويعرفها سَلَفاً انها «خمسون ألف ريال»، تمثّل المهر الذي اتفق عليه أهل المدينة للفتاة البكر، ولكنّ الرجل فاجأ الجميع بقوله: ابنتي لا تريد إلا تلاوة آية من القرآن مهراً لها، وفوجئ الجميع بهذا المهر الجليل، وتلا الشاب آية من القرآن، وأخذ الأب الجميع بأن العروس جاهزة للذهاب مع عريسها، وتسامع أهل القرية بالخبر المبهج المفاجئ فسعدوا به، وتبرّع أهل الخير منهم بسكن للشاب مع أثاثه تقديراً لهذه الخطوة المباركة «النادرة» وإعجاباً بهذا الأب، ومكافأة لتلك الفتاة.
نعم يا أهل الحفلات الكبيرة والمهور العالية، والمظاهر المبالغ فيها، آيةٌ من القرآن مهر لفتاة مسلمة واعية من بلاد زهران.
لا تعجبوا ولا تستغربوا، ولا تكثروا الكلام حول هذا العمل الكبير فإني والله لأرجو لهذا الزواج البركة والتوفيق، وأذكركم بأم سليم بنت ملحان رضي الله عنها التي كانت أعظم النساء مهراً بإجماع السلف الصالح، وبتأييد من أفضل الخلق عليه الصلاة والسلام، حيث زوّجت نفسها لأبي طلحة الأنصاري بإسلامه، فكان إسلامه مهرها وما أعظمه من مهر، وأذكركم أيضاً بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوّج رجلاً من الأنصار امرأة من المسلمين بما كان معه من القرآن، حتى أصبحت عبارة «زوّجتكها بما معك من القرآن» إضاءة لا يخبو نورها على مدى الأزمان، وهكذا يعيد لنا المجد نفسه، وتتكرّر في ظل إسلامنا المواقف العظيمة نفسها، ونجد في صخب حفلات الزواج وضجيجها محطّة هادئة جميلة تشعرنا بالأمان، وتسعدنا بوجود هذه العقول النيّرة والقلوب الطيبة إن شاء الله والنفوس ذات القناعة التي تفتح لنا هذه النافذة المضيئة حتى يدخل علينا منها هذا النسيم العليل.
تحيّة إجلال وتقدير لأصحاب هذه الحفلة المتميّزة، وهذا الزواج المبارك إن شاء الله ودعوة إلى كل ذي بصيرة لتكرار مثل هذا العمل الكبير، ودعاء خالصاً أن يبارك الله سبحانه وتعالى حياة هذه الأسرة الصغيرة التي بدأت حياتها هذه البداية المشرقة.
إشارة:
يا غافلاً عن حسن أخلاقه
غداً يزول المال والمنصب
|
|