بين المجلس الوطني السابق المدمن على التصفيق والمعشعش بلزوجة في الذهنية العراقية، وبين مجلس الحكم الانتقالي الحالي الموصوف شعبيا بطائر الزيطة (لا يطير بعيدا ولا يمسك بيد) مسافة ككيس من المطاط لا يعرف احد طاقته الاستيعابية كما لايعرف درجة الحرارة المطلوب حفظه فيها قبل ان تنتهي صلاحيته للاستهلاك البشري، وهل يجب ابعاده عن متناول ايدي الاطفال أم لا؟ ولكن كل الذي يعرفه انه يستطيع تناول مجلس الحكم بلا ارشادات الطبيب لانه مستحضر في شركة عالمية متعددة الجنسيات لها سمعتها في صناعة (الاشياء) وهو ممزوج بدقة متناهية تصلح لشفاء جميع العلل كحبة البركة.
فهو اذن مكيف هواء (جنرال موتورز) عليه ان يلطف حرارة تموز وآب وما تليهما من أشهر كل بحسب النسبة المذهبية والقومية والعرقية والمستقلة التي يمثلها، مع ان قوة التيار الكهربائي الواصلة اليه من (الكونترول) لاتختلف بحسب ضخامة الاسلاك لكنها على كل حال مشمولة بأسلوب القطع المبرمج للتيار الكهربائي عدا مساكن وقاعات اجتماعات المجلس المزودة بمولدات كهربائية مقترضة خلسة من بعض مؤسسات الدولة المنهوبة أو الملغاة.
وبرغم ان المجلس قد اصدر قرارا تاريحيا فريدا في جلسته المعلنة الاولى باعتبار بوم التاسع من نيسان عيدا وطنيا تيمنا بسقوط تفاحة نيوتن في حضنه ليكتشف بعدها اسباب سقوط الاشياء، الا انه ظل محتارا فيمن سيكون رئيسا له، فكلهم يتمتعون بمقاسات واحدة صالحة للدخول في خرم الابرة وبذلك يسجلون سبقا سياسيا في المساواة والتواضع فلا يريد احدهم ان يعلو على صاحبه عفة وحياء.
وكانت الكلمات المبتورة التي تفوه بها عدد من اعضاء المجلس في اثناء المؤتمر الصحفي الذي تلا اول جلسة للمجلس تعبر عن ديمقراطية عراقية مستحدثة ومستمدة من عمق الاتفاقات على ستراتيجية اخوية الركائز وتكتيك يليق بملامح المرحلة الانتقالية التحررية ولا سيما شح الماء والكهرباء والنفط والبنزين وغلاء المعيشة وطوفان نسبة البطالة والايجارات فضلا عن انعدام الامن والامان. ومن مظاهر تلك الديمقراطية هي الاختلاف في اول جلسة على تسمية قوات التحالف فأحدهم سماها قوات احتلال وآخر سماها بحماس قوات تحرير، ويبدو ان المترجم الفوري الواقف على طرف المسرح نسي فورا ترجمة التسمية الاولى الى الانكليزية وتجاوزها بلياقة دبلوماسية عالية. ولاجل رفع الالتباس نقترح عليهم الغاء حرف التاء باعتباره حرفا يستخدم للتأنيث ولا يناسب مرحلة المساواة بين الرجل والمرأة فتسمى (قوات الحرير) فيكون الاسم منسجما مع المسمى، فالحرير املس ناعم ثمين وخيوطه قاطعة حادة كموجة النيوترون والمايكرويف والليزر المنبعث من الاسلحة المصوبة على الاهداف المتجاوزة على أوامر حظر التجوال بعد الساعة الحادية عشرة قبل منتصف ليل العراق الدامس والمبرمج سابقا بسبب الاستعمار والصهيونية وحاليا بسبب بقايا نظام صدام القمعي.
والعراقي بحسه المتبلور خلال جيل من الزمن، وتحت ضغط تلال من قرارات مجلس قبادة الثورة المستندة الى الفقرة (أ) من المادة 42 من الدستور قد تيقن من ان كل طالب حكم أو سلطة أو مسؤولية (حرامي) هكذا وبكل بساطة لا تقبل الجدل، فالمجرب غير الحكيم، ومن لسعه السوط ليس كمن رآه على الانترنت وصاح (أخ)، وعلى اعضاء مجلس الحكم ومن سيليهم في سلم المسؤوليات ان يثبتوا العكس ويعملوا بشعار منظمة اليونسيف نفسها التي تغض النطر - حين تقدم خدماتها - عن أي تقسيم لبني ادم وحواء.
ثمة مقولة من أربع كلمات اختصرت كل انواع التعقيد وآمن بها العراقي لاتفاقها مع بساطة نظرته لفلسفة الحكم قالها الزعيم عبد الكريم قاسم منذ عام 1958 لصاحب مخبز كان يعلق صورة كبيرة للزعيم في حين كانت ارغفة الخبز الخارجة من التنور صغيرة قال له (صغر الصورة وكبر الرغيف)، وقتل الزعيم بعد ذلك لانه يمارس (ديكتاتوريته) على اصحاب الافران لتكبر بعده آلاف الصور والجداريات والتماثيل ويصبح الرغيف بسمك قشرة البيض وبسعة صيوان الاذن.
وتتورم اليوم تساؤلات العراقي عن المستقبل، وتنتصب امامه جداريات جديدة متعددة المصادر تلطمه بالبطالة اينما ذهب وتقلقه على مصروف الجيب المهدد بالسلب، ويرعبه رصاص الامريكان العشوائي حين ينفجر لغم صغير يخدش سرفة المدرعة بالفولاذ والأشعة، أو يعطب سيارة دورية يموت فيها جندي من بين مئات الآلاف من الجنود المدفوعة اجورهم سلفا يقبضونها احياء أو امواتا على حساب العراقي وبالدولار في حين ما زالت أموال الناس محجوزة بالمصارف.
وحتى هذه اللحظة لا يعرف العراقي لماذا نحتاج الى مجلس حكم انتقالي معقد ومقسم ومدبب كالاسلاك الشائكة ما دام مؤقتا وانتقاليا، ولا سيما حين يقرأ حزمة الأوراق التعريفية بالمجلس ويستل منها سطرا يقول (يشترط ان تقوم سلطة الائتلاف المؤقت بالتشاور مع مجلس الحكم المؤقت حول كافة السياسات والمسائل الرئيسية..)، وتأتي صلاحيات المجلس كلها في هذا السياق مؤقت +مؤقت + انتقالي + استشاري.
لكن القهقهة الكبرى تأتي بعد قراءة اعضاء مجلس الحكم والتعريف بهم، فنعرف ان اكثرهم كان معتقا من العهد الملكي، وعهد التناحر والتطاحن في أقبية آمنة في دول ناطحات السحاب حيث البرد القارس والشوق الى السمك (المسكوف) وتشريب البامية والباجا، فتلك الدول لا تنمو فيها البامية ولا تعيش فيها الأسماك، وان عجولهم بلا رؤوس لكي يطبخوا منها الباجة. والبعض الآخر من الاسماء يتذكرهم العراقيون فقد ذاقوا منهم الكثير من كؤوس القلق والريبة والخوف من التسليب والتعذيب حين يمرون على الطرق الخارجية مسافرين من محافظة الى اخرى ومن الشمال الى الجنوب، ففي الجنوب الكثير من امراء الاهوار المتجولين على الطرق الخارجية لينصبوا نقاط سيطرة تفرغ جيوب المواطنين وتأخذ سياراتهم بحجة انها عائدة للنظام البعثي، اما شمالي العراق فقد كان وما زال يبتلع السيارات الحكومية الحديثة المسروقة والمصدرة اليه من فندق برج الحياة والفنادق الأربعة المحيطة به في منطقة الكرادة الشرقية ببغداد والخاصة بسكن امراء الجبال والوديان الجالسين حاليا ومؤقتا مع امراء الاهوار وناطحات السحاب والمنافذ الحدودية ما ظهر منها وما بطن.
ويبقى العراقي يستعرض الاسماء بحسب الحروف الابجدية مما يشي بوجود الاختلاف والخلاف على تقديم أو تاخير اسم على اخر، ثم يرمي العراقي حزمة الاوراق في حجر صاحبه ليقول (لم افهم شيئا) ويجيبه صاحبه: (كل شيء على حسابك فهمت أم لم تفهم، فعلينا ان ندفع فاتورة الصمت وفاتورة الكلام وفاتورة المقاومة فضلا عن فاتورة «الحرير» ونحتفل يوم 9 / نيسان القادم ان بقينا احياء عند ربنا نرزق).
(*)كاتب وصحفي عراقي
|