تاريخنا المحلي مليء بالمحطات المهمة التي تستحق وقفات تأمل وتمحيص وتحقيق، وإذا كانت هناك ثمة فترات مازالت غامضة نعزوها إلى قلة العناية بالتدوين والكتابة إبان تلك الفترة.
ونحمل شهود تلك الفترة تبعة هذا الغياب الكبير من تاريخنا وتلك الصفحات المندثرة من تراثنا، فأرانا جديرون ألا نقع في تلك الوقيعة الآنفة.
ولقد انبرى خيرون وباحثون ومخلصون نحو هذه المهمة بكل اقتدار ووجدت جهود مشكورة صارت مرجعاً لكل باحث عن حقيقة أو معلومة أو خبر.
ولقد زفت لنا المطابع مؤخراً كتاباً وثائقياً مهماً دونه باحث مقتدر وأكاديمي معروف وهو د. عبدالله بن محمد بن رميان الرميان عضو هيئة التدريس بجامعة أم القرى وإمام وخطيب جامع الأميرة منيرة بمكة المكرمة في بحث حافل عن «مساجد بريدة القديمة».
ولقد صدر هذا البحث القيم بتقديم من معالي الشيخ العلامة محمد بن ناصر العبودي الأمين العام المساعد لرابطة العالم الإسلامي والمؤرخ المعروف. الذي أشاد بقيمة هذا البحث وجديته حيث قال ما نصه «فألفيته كتاباً جامعاً لمسائل تاريخية لم تذكر في غيره ومترجماً لعدد من أئمة مساجد بريدة لا توجد تراجمهم في كتاب آخر، فهو بهذا أنقذ مجموعة من المعرفة عن بلادنا كانت معرضة للضياع، وهذه ميزة عظيمة، لو لم يكن للمؤلف الكريم غيرها لكفاه شرفاً بالسبق إلى ذلك.
ثم استرسل معالي الشيخ العلامة العبودي في ذكر المعاناة التي قد يجدها المحقق في تلك البحوث.
ولقد استطاع د. الرميان أن يقدم باكورة مهمة لأبحاثه التي يعكف عليها مثبتة شخصية علمية ورسخ قدمها مبكراً.
ولقد استهل د. الرميان الكتاب بمقدمة مهمة عن أهمية المسجد ومكانته في الإسلام ثم دور المسجد التربوي والاجتماعي ثم المرأة في المسجد واهتماماتها والأطفال والمسجد.
ثم أفرد لدور المسجد العلمي حديثاً مفصلاً أعقبه حديث خاص عن آداب المسجد ومهمة إمامه.
ثم تحدث عن بريدة المدينة - ثم مساجدها.
وكانت خطته في بحثه أن رتب المساجد حسب تاريخ تأسيسها، ثم يحدد مكانه وتاريخ بنائه وما حصل له من تجديد، ويذكر من قام بعمارته وسبب التسمية واسمه المشهور حالياً.
ومن فصوله المهمة أنه يذكر أئمة المساجد منذ تاريخ تأسيسه على الترتيب مبيناً الفترة التي قضاها كل إمام في إمامة المسجد ويترجم لكل إمام من الأئمة المتقدمين على وجه الخصوص ترجمة مختصرة.
وقد يطيل للحاجة كالعلماء والمشاهير خصوصاً الأموات منهم.
ومن بحوث الكتاب المهمة: أسماء من أذن في المسجد دون ترجمة والسبب حسبما يظهر الكثرة التي ستستغرق جزءاً كبيراً من الكتاب لو ترجم لكل واحد.
ومن جميل فصوله: حديثه عن حلق العلم في كل مسجد حسبما تيسر له، ثم ختم الدراسة بمبحث لطيف جميل أسماه «من حصاد الدراسة» فيه لطائف ومتفرقات واحصائيات مثل أقدم الأئمة ومقارنة بين إمامة الشباب والشيوخ والعدد في المساجد واختبار المأمومين.
والكتاب بحق يعتبر اضافة مهمة إلى تاريخنا المحلي مع مضامينه العلمية والشرعية الطيبة التي أحسن صيانتها د. الرميان.
وعلى الرغم من الجهد الكبير الذي بذله جزاه الله خيراً إلا أنه كما أشار في مقدمته قد يقع شيء من الزلل والخطأ والنسيان شأنه في ذلك شأن أي عمل بشري.
وإتماماً لهذا الجهد الكبير الذي بذله د. الرميان أجد من المتعين تقديم بعض الملاحظات التي ينبغي التنبيه عليها التي أوجزها في الآتي ولا تفضي أو تنقص بحال من قيمة الكتاب العلمية وما احتواه من مباحث قيمة عز أن يوجد لها نظير.
أولاً: أن المؤلف: قطع على نفسه أن يستغرق جميع المساجد القديمة حتى ما كان منها غير موجود حالياً وتمت ازالته.
وقد ذكر سيراً منه على هذا المنهج مسجد ناصر والمنسوب إلى الشيخ ناصر بن الشيخ سليمان بن محمد السيف الذي كان يقع إلى الشمال الغربي من مسجد الحميدي القائم حالياً.
وقد تم هدمه سنة 1402هـ لتوسعة سوق الخضار والتمور إلا أن د. الرميان فات عليه أيضاً مسجد أبابطين وهو غير جامع أبابطين المعروف الذي ترجم له وأشار إليه.
ومسجد أبابطين هذا يقع في الجهة الشمالية الغربية من المسجد الجامع وينسب إلى أبابطين وهو عبدالعزيز ابن الشيخ العلامة عبدالله بن عبدالرحمن أبابطين وذلك إبان استعماله وإدارته لبيت مال القصيم في زمن الإمام فيصل بن تركي الذي يظهر أنه بني في حدود عام 1300هـ.
حسبما ذكره الشيخ العبودي الذي قال عنه في اللمحات التاريخية حين ذكره لمقتل عبدالله بن حجيلان بن حمد على يد رشيد الحجيلاني وذلك سنة 1235هـ ثم قُتل رشيد على يد لؤلؤة العرفج انتقاماً لابنها في قصة بطولية معروفة.وذكر ان قبر عبدالله بن حجيلان بن حمد في الشرق من مسجد أبابطين المشار إليه الذي بني بعد مقتل عبدالله بخمسٍ وستين سنة وهو شمالي المقبرة القديمة التي تقع في غربي بريدة وإلى جانبه نخيلات تابعة للمسجد كما هي العادة المتعبة في أكثر مساجد بريدة بأن يغرسوا النخل يقوم عليها مؤذن المسجد ويأخذ ريعها ويذهب إليها ماء الوضوء للصلاة.
ثانياً: أشار د. الرميان إلى أن بداية المكتبة كان في عهد الشيخ حينما أشار على الشيخ فوزان السابق أن يضع بعض كتبه القيمة المخطوطة والمطبوعة في مكتبة الجامع والحقيقة أن قصة مكتبة جامع بريدة يرويها الشيخ محمد بن ناصر العبودي أو قيّم للمكتبة الذي يقول: إن فكرة انشاء مكتبة في جامع بريدة تولدت لدى الشيخ عمر بن سليم رحمه الله جراء وجود عددٍ من الكتب التي كانت ترد إليه وفقاً على طلبة العلم حتى من بعض النساء مثل كتاب عدة الصابرين ورياض الصالحين وغيرهما.
وعندما حصل خلل في جامع بريدة سنة 1359هـ وطلب الشيخ عمر بن سليم من الملك عبدالعزيز أن يتم إصلاح الجامع فوافق وأمر مالية بريدة أن يتم ذلك حسب رأي الشيخ عمر بن سليم - رحمه الله والجميع-.
الذي بدوره أوجد فكرة بناء مبنى للمكتبة في الزاوية الشرقية من الجامع إلا أن الشيخ رحمه الله مرض سنة 1361ه ثم توفي في شهر ذي الحجة سنة 1362ه بعد أن جهز وترك مكاناً للمكتبة. ثم قدم الشيخ عبدالله بن حميد - رحمه الله - إلى بريدة مدرساً في بداية شهر ذي الحجة سنة 1363ه وعيّن الشيخ محمد العبودي قيماً عليها الذي استجلب بدوره بعض الكتب التي كان منها مجموعة العجاجي الآيلة إلى الشيخ محمد بن عبدالعزيز العجاجي وهو شقيق للشيخ علي بن عبدالعزيز العجاجي ووالد الوجيه الشيخ عبدالله بن محمد العجاجي رحمه الله وكانت في دولاب كبير أي خزانة وكانت في غالبها كتباً وقفية.ثم أحضر محمد بن عبدالله الروّاف وسليمان بن عبدالله الروّاف مكتبة جيدة فيها بعض المخطوطات والكتب المهمة التي كانت لوالدهم القاضي المعروف عبدالله بن أحمد الروّاف المتوفى سنة 1359ه الذي تولى قضاء المكلا وجُعلان وقتل غدراً بها.
ثم أرسل الشيخ عبدالله بن حميد رحمه الله إلى الملك عبدالعزيز - طيب الله ثراه - طلباً يوضح أن هناك مكاناً لمكتبة كان يريد تهيئتها الشيخ عمر بن سليم رحمه الله ولكن ليس فيه كتب فوافق الملك عبدالعزيز على تهيئتها وإمدادها بما تحتاج وأرسل نحو 3 آلاف ريال فرنسي ثم زاد المبلغ بعد ذلك.
يقول الشيخ محمد العبودي: ذهبت إلى الشيخ عبدالله بن عبدالعزيز المشيقح وهو أحد رجال بريدة المعروفين وعرضت عليه فكرة ضم مكتبة الشيخ فوزان السابق التي كانت مودعة عند آل مشيقح حيث كانوا وكلاء له إبان إقامته في مصر لتكون نواة لمكتبة جامع بريدة فوافق على الفكرة إلا أنه أبدى اعتذاره عن تحقيقها إلا بأخذ الإذن من صاحبها وعرضه عليه وهو الشيخ فوزان، وطلب تحرير مكتوب بذلك.
يقول الشيخ محمد العبودي، وبالفعل تم كتابة خطاب موجه من الشيخ عبدالله بن حميد - رحمه الله - إلى الشيخ فوزان السابق لضم مكتبته إلى مكتبة جامع بريدة وبالفعل جاءت الموافقة من قبل الشيخ فوزان بذلك وهو موجود لدى الشيخ العبودي أي خطاب الموافقة.
ثانياً: ما ذكره الشيخ عبدالله البسام من تكليف الشيخ علي بن عبدالعزيز العجاجي بالاشراف على المكتبة غير دقيق إنما التكليف للشيخ محمد العبودي، أما الشيخ علي بن عبدالعزيز العجاجي رحمه الله فقد طلب منه تزويد المكتبة ببعض مالدى أسرتهم من كتب علمية لضمها إلى المكتبة أسوة ببعض الأسر التي تمت مخاطبتها بهذا الشأن نحو أسرة الروّاف الذي تقدم منهم الوجيه سليمان عبدالله الروّاف رحمه الله ببعض الكتب العلمية وأسرة المشيقح والرميح وغيرهم التي من خلالها تم تعيين الشيخ محمد بن ناصر العبودي قيماً عليها براتب شهري.
ثم تواردت الكتب إلى المكتبة حيث قدمت أسرة المزيني وهم من أهالي بريدة المقيمين في الكويت، وقد مروا ببريدة أثناء ذهابهم إلى الحج وطلب منهم التبرع للمكتبة فقدموا مبلغاً جيداً تم من خلاله شراء بعض الكتب للمكتبة التي أصبحت أول مكتبة علمية في نجد التي ضمت فيما بعد إلى وزارة المعارف وأصبحت اليوم في مكان رائع جميل مهيأ يتوسط مدينة بريدة، سميت فيما بعد باسم مكتبة الملك سعود رحمه الله.
ثالثاً: كان بودي أن يكون للشيخ عبدالله الرميان بحث في مساجد بلدة الشماس التي كانت سابقة لبريدة وبحث لنا عن مساجدها من خلال الوثائق الموجودة عن الدواسر أهل الشماس التي من الممكن أن يتم معرفة بعض الشخصيات العلمية فيها من طلبة علم وأئمة مساجد.
رابعاً: بالنسبة للشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن عبدالرحمن بن سويلم قاضي بريدة في زمن الإمام عبدالعزيز بن محمد بن سعود.
وقد أشار إلى العريني وهو نسبة إلى العرنيات من سبيع حلفاً ولا أعلم أحداً حمّل الشيخ اسم العريني سوى د. الهويمل في كتابه بريدة ولعله نقل عنه، أما البسام في ترجمته وغيرهم فهم ينسبونه إلى أسرته المشهور بها في الدرعية والرياض والبكيرية وبريدة وهم آل سويلم وذريته موجودة إلى اليوم في بريدة.
خامساً: أشار إلى أن بداية قضاء الشيخ سليمان بن علي المقبل كان سنة 1256هـ والحقيقة أنني اطلعت على وثائق تعود إلى تاريخ متقدم وهو سنة 1252هـ وفيها قضاء للشيخ سليمان مما يدل على سبقه للتاريخ المشار إليه.
سادساً: كنت آمل أن يقدم المؤلف تراجم ولو مختصرة لبعض الشخصيات البارزة التي ورد ذكرها للتعريف بها من أمراء كرام وأعيان وعلماء لم يكن لهم نصيب من الإمامة لكن كانت لهم أياديهم البيضاء وجهودهم الخيرة فحق أن يذكروا.
سابعاً: وقع بعض السقط في الأسماء والخطأ فيها التي أوجب أن يتم تصحيحها في الطبعات القادمة مثل خطئه في اسم الشيخ إبراهيم بن جاسر حيث أورد اسمه كالتالي «إبراهيم بن حمد بن إبراهيم الجاسر واسمه الصحيح هو إبراهيم بن حمد بن عبدالله الجاسر» وغير ذلك.
ثامناً: هناك فوات لعددٍ من الأسماء الذين قامت ببناء بعض تلك المساجد المشار إليها أو قاموا بتجديدها والتي آمل أن يتم استدراكها.
وعلى الرغم من هذه الملاحظات اليسيرة إلا أن الكتاب يحمل اضافة تاريخية مهمة عن تاريخ بلادنا تستحق الاشادة والتنويه على الجهد الكبير والتحقيق الذي بذله الدكتور عبدالله الرميان حتى خرج الكتاب بهذه الحلة الجميلة.والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
|