يثير أحياناً حنين الذاكرة في مخيلتي مشاهد من الرياض القديمة،.. رياض البيوت الصغيرة، والطرق الضيقة، ومزارع النخيل، ورياض التعاضد والتآخي والتعاون.. فقد كان مجتمعاً متسامحاً، يعيش فيه ساكنو الحي بدون حواجز أو عوازل، تمنع مرور مشاعرهم وعواطفهم الإنسانية عبر الأسوار، أو من خلال مسامات الجدران الطينية إلى الجار وإلى أكثر من سابع جار..
بحثت كثيراً عن سبب، يفسر حجب تلك المشاهد والحس الاجتماعي الجميل، أو يرشدني عن أطلالها أو رفات ساكنيها، وإلى أين هاجرت، .. قرأت عن نظريات التطور وفصول الفلسفة الاجتماعية، وعن نتائج الطفرات البشرية، فلم أجد لها خبراً أو علماً، يبرر الجفاء وتحول الأحياء إلى مربعات ومستطيلات من الأقفاص الخرسانية والعازلة للمد الحراري والصلات الإنسانية،.. بحثت في المجلدات القديمة وفي شعر محسن الهزاني، ودواوين حميدان الشويعر، لعلني أجد سر ذلك «القديم» الذي اختفى خلال العقود الأخيرة.. وعلى أمل أن تنقذ تقنية الاستنساخ الجزء المفقود أو تعيد شيئاً منه.!
سافرت في ذاتي، فربما أنا من تبدل وتغير،.. فوجدت إنساناً جديداً، ذهلت من تركيبة عقله الظاهر والباطن،.. ملايين من الخلايا المتلاصقة إلى مالا نهاية تمتد في جميع الاتجاهات، تصطدم أحياناً بتضاريس العارض الجبلية وتنطلق بجنون شمالاً وشرقاً في متاهات الصحراء العطشى.. مركبات أسمنتية لا تحصى ولا تعد، ولا يفصل بين جدرانها إلا طرق أسفلتية، تشتعل في تقاطعاتها الإشارات الضوئية، وتخترقها الأنفاق، وتعلوها أحياناً الجسور الأسمنتية،.. أسوارها عالية وجدرانها خرسانات ثقيلة وعازلة ضد كل أنواع الاتصال الإنساني، ولكنها تشع حرارة، تشعلها ناراً.. سخونة شوارع الاسفلت والأرصفة الخرسانية..
وأثناء تجوالي بين الخلايا الخرسانية، .. بحثت عن جزء من ذلك القديم، فوجدت خلايا جدرانها من طين وأبوابها خشبية تسمح بمرور الأصوات وبعبور المشاعر والأحاسيس.. تقف صامدة بالقرب من مجمعات خلايا الخراسان والفولاذ الصلب، والممتنع ضد سريان جميع أنواع الاتصال البشري،.. ولا غرابة..
فلا زلت أشعر في لحظات نادرة بنسيم «صبا» نجد في الأصيل، وبدفء المشاعر في قسمات والدتي وخالتي وجاري القديم.. وألمس ملامح الألفة ومشاعر التواصل في بيوت الطين وأبوابها الخشبية والمزلاج وأشجار النخيل في الرياض القديمة..
هناك من يطرح وجود ثمة علاقة بين طفرة الخراسانات الجاهزة وبين هيمنة العقلية الخراسانية على مجتمع الأصالة القديم،.. فتقاليد المجتمع وموروثاته لم تتبدل منذ القدم، والناس هم أحفاد وأبناء الأجداد أو ساكنو الحي القديم، فلماذا اذن تحجر العقل وأصابه داء الخرس..؟
ولماذا لم يعد يجيد غير وسائل التهديد والترهيب والانفجار، ولم يعد يظهر منه إلا علامات الغضب وعدم الرضى..، فقد نفد مخزون الصبر من طبائعنا، فتلاشى مجتمع التسامح من حياتنا بعد أن سيطرت عليه أخلاقيات «الكونكريت»، فكل شيء أصبح قابلاً للانفجار، وإذا انفجر، تناثرت منه الشظايا المحرقة والحجارة القاسية، ودمر أقرب الناس إليه.. إنها طبائع الخراسان وأعمدة الفولاذ وسلوك المشاعر العدوانية..!
هناك من يجد في العلم تبريراً لما يجري في فضاءالمدينة، فالأبحاث التي نشرتها المراكز العلمية تتحدث عن أضرار الكونكريت وخطر إشعاعاته «النووية»، فالعلم الحديث يؤكد أن للأسمنت والخرسانات تأثيرات صحية واشعاعية على الجسم، حيث تؤثر ذراتها سلبياً على الرئة والجلد والعين، فيقل أكسجين الدم ويترهل الجلد ويضعف البصر..
وكلما تزداد سماكة الاسمنت، تنقص قدرة الخلايا على الاتصال.. ومع تراكم ذرات «الكونكريت» تتخرسن الخلايا وتشتد صلابتها وتتيبس أطرافها، فتتقطع قدراتها الذهنية ثم تنشل فيها حواس السمع والبصر، وسمات التسامح والألفة.. لتتحول الى مجتمعات مكونة من ملايين الخلايا الصماء التي لا يصدر منها همس أو حديث إلا إذا انفجرت هالكة.. فالتعرض لها بصورة مزمنة يؤدي إلى إنتاج عقلية خرسانية لا تجيد فنون التعامل الأصيلة.. ربما هذا ما حدث، فالطبائع الخرسانية صارت تحكم أخلاقيات ساكني المدينة وتقتل فيهم حنين الذكريات القديمة.. ولم يتوقف انتشار داء «الكونكريت» في مدن الرياض وجدة والدمام فقط، فقد طالت سمومه قرى العارض والشمال والحجاز والأحساء وجبال عسير ووديان جيزان ونجران الجميلة...
ويبدو أن السر كان في الطين، فمكوناته الطبيعية وتجانسها مع البيئة، ... وخلوه من التأثيرات الصحية الضارة ربما كانت أحد أسباب «مرونة» العقل في صحراء الجفاف، فعندما كان ينزل المطر، تلين جدران الطين وتنبعث منه رائحة الأصالة، وإن حدث ونمت في داخلها بذرة هلاك.. أبطلتها نفاذ مساماته وجذوره البيئية.. فقد كانت قرية الطين في الماضي مصدراً لطبيعة التلاحم وسمة التسامح.. وصارت مدينة الخراسان في الحاضر مصنعاً لعقلية الكونكريت وذهنية الانعزال..
إنها ثورة الكونكريت قاتلها الله.. فقد سرقت من ذاكرتنا ذلك الجزء القديم في حياتنا الماضية والجميلة.. والذي لن يعود إلا اذا عاد الطين إلى قواعد ومباني المدينة، وعادت مزارع النخيل والميادين الفسيحة إلى أحيائها، هذا هو واقعنا القاسي.. فقد أضحينا نعيش وسط قلاع من الخراسان الذي لا تلين صلابته أمطار الشتاء والربيع، ونتعامل من خلال طبائع خرسانية لا تجيد فنون التواصل والتسامح والتنازل.. فهل يعود «الطين» يوماً ما إلى مرابعنا، ويكبر من جديد ذلك الجزء الجميل في حياتنا..
كم أتمنى ذلك.!
|