تعيش العجوز ام محمد بالصحراء في كنف خيمة صغيرة تربي خمس عنزات وتيساً طوقها دائرة واسعة من خيام جيرانها الرجل، اثناء هطول الامطار في مكان ما يتحرك الجميع الى تلك الاقطار حيث الملأ ووفرة الماء والكلز لما شيتهم مشكلين تحالفاً اجتماعياً لامثيل له، وبعد غروب شمس كل يوم، يضرم النار من يأتيه الدور فترى السنتها تتلظى معانقة عنان السماء من حيث يأتي الماء فيحلو السمر حول الجمر وتدور في مجالسهم احاديث الانس والجن ويتلذذ الجميع بصدى نين النجر اثناء سحق القهوة بهمة ونخوه فيبث في نفوسهم الانتعاش ويفتتح باب النقاش ويتناول الجميع طعام العشاء والقهوة والعجوة.
عاشت ام محمد حياتها مع جيرانها فأصبحوا اهلها بعد ان هجرها اهلها ولم يبخلوا عليها في يوم ما بطعام او ماء فأحبتهم واصبحت جزءاً منهم مستمتعة معهم بالعيش بين كثبان الرمال ومنظر الجمال ومنظر الصحراء المنبسطة الخضراء حينما تهطل الامطار عليها فتكتسي بحلة نضرة لاتمل منها النظرة، عاشت ام محمد حياة البساطة مسافرة فوق بساط الزمان في رخاء وامان حيث ان العيش في الصحراء يضاهي نظيره في المدينة، عندما يتنفس الصبح معلنا يوماً جديداً يؤذن شيخ كبير من جيرانها قدير فيأتيها صدى صوته عبر الاثير فتترك الوثير وتتوضأ وتصلي الفجر طلباً للأجر فتلزم مصلاها حتى شروق الشمس فتشعل النار وتحضر القهوة ثم تحلب عنزاتها وتصطبح ثم تلتقط عصاها التي لا (تعصاها) فتتكئ عليها مرتشعة منتعشة فتجر جسمها المهزول كأنه زول هاشة على عنزاتها باشة الى مرعى غير بعيد كأنها في عيد فتشرع العنزات في رعي عشب المفازات وتقفز مرحاً والتيس يثب فرحا فتعرف ام محمد وتستغفر وتحمد ربها ان عنزاتها مستقرة في المرعى مستمرة فتستظل بسمرة من رمضاء كالجمرة حتى وقت الظهيرة فتركز عصاها وتخلع رداها وتضعه فوقها فتبدو للعنزات كأنها هي وليست هي فتنسل عنها عائدة الى سكنها فتنام كالذئب مغمضة عيناً ومراقبة بالاخرى عنزاتها فاذا توارت عنها التقطت منظراً يقرب البعيد ولا يجلب البعيد تنظر الى العنزات راتعة في الفلاة ليمطئن قلبها كالذين من قبلها، عاشت على البساطة في البر وانبساطه، وحينما حل الشتاء بدأت في حفر حفرة في الارض كالتنور داخلها لايرى النور لتضع صغار الماعز لتحميها وتدفيها قدم ابنها محمد من البلد دون ولد او تلد ليسلم، ضج مجلس الجيران ومعظمهم حيران ان محمداً قد جاء لأمه وجاء معلناً الجهاد ضد حياة الوهاد للعيش في المدينة بعد قضاء دينه، كانت امه مترددة حول وعوده برحيل دون عودة جعلها تعيد النظر في حياة البدو والحضر فطاوعت الوحيد عن رأيه لا يحيد بعد ان سئم السفر عبر مسافات طويلة وهو يطوي ليله للسلام عليها، خيرها بين امرين أحلاهما مرُّ إما حياة الترحال مع البدو وإما العيش في المدينة حتى تصبح بدينه، حامت غربان البين نواعق كأنها صواعق فوق مكان ام محمد، اقام محمد حفلة عشاء لمقدم والدته شبه المستحيل بعد ضعف حيل، انصرم يومان وامه مضربة عن الاكل والشرب معربة ان الطعام بشهية دون إرغام وان به (كيماوي) سيجلب البلاوي وبين توسلات محمد وزوجته وولده واهل بلدته اعجزتهم العجوز ان كل شيء لايجوز، هددها محمد بإيداعها دار العجزة بعد فشله وعجز وان لم تأكل وتشرب وليس له اي مهرب وما درى انه ادخل رأسه في المشنقة وحاله يدعو للشفقة واختارت امه اقتراحه وكم سهرت تضمه العيش في دار الراحة في عينها كالواحة لعله الحل الوحيد من ابنها الوحيد، قرر طبيب دار العجزة ان لديها سوء تغذية عالجه وانجزه وتحتاج لاستراحة فقبلت اقتراحه، امضت العجوز اسبوعين في الدار كالعامين، جاء ابنها للدار يقول يا للعار لاستلام امه لعلها تضمه فقالت لك الخيار اما عيشة البر او في الدار دون بر.
(*) الرياض
|