منذ بدء الخليقة على وجه البسيطة لم تتوقف حركة الحياة، ولم تتجمد مسيرة الزمان؛ بل تطورت الدنيا بكل ما فيها إلى جديد في الشكل والمضمون، ولولا ذلك التطوير الذي هو سنة الله في خلقه ما وصلنا إلى ما نحن فيه من رقي وعمران، وازدهار وارتقاء في شتى صور الحياة علماً وعملاً.
ومنذ بدء الحياة كان التقاء الناس وتشاورهم حول امور معايشهم طريقا الى اختيار سبل السلامة، فالمرء قليل بنفسه كثير بإخوانه.. وحتى على مستوى الرسل والأنبياء وهم حاملو أقدس الرسالات، ويدعون الناس إلى أشرف الغايات. توحيد الله والسير على منهجه الذي أبانه لخلقه في كتبه وعلى لسان أنبيائه ورسله كانت المشورة والحوار مع من يدعونهم سبيلا الى الإقناع وتعميق الإيمان وحياتنا المعاصرة تتطور بشكل متسارع، وربما في الأجيال القادمة يقولون عنا إن حياتنا واكتشافاتنا كانت بطيئة.. وإننا أمم متخلفة.
إننا اليوم في محيط زاخر من التفاعلات، بل في دائرة كبرى لا حدود لها من الدوامات.. وأسماك القرش وحيتان المحيط الهادر لا تتورع أن تبتلع من لا يتسلح ضد هذا الطغيان، ويتخذ العدة من نفس نوع راغبي العدوان.
إذا قيل إن عصرنا هذا هو عصر التقنية والاتصالات فإني أرى أن هذا الاتصال التقني هو قبل ذلك اتصال فكري، اتصال اجتماعي فكري إنساني وإذا كانت بعض الدول اتخذته اتصالاً ماديا خالصا فإننا بعقيدتنا التي لا تهتز. وقيمنا التي لا تتزعزع، وثوابت أمتنا التي لا تنحل نتخذ الاتصال الفكري والاجتماعي والروحي والوجداني والأسري والأبوي.. وقبله الاتصال القيادي سبيلا إلى حياة عزيزة كريمة سليمة آمنة رغدة سعيدة.
إن بلادنا العزيزة بلاد الحرمين الشريفين التي خصها الله بما لم يعطه أمة أخرى لها مكانها الفريد على خريطة الحياة الإنسانية، ولها مسلكها الإيماني الخاص الذي يرسم منهجها وهو دون أدنى شك منهج قويم ثابت سليم. إن بلادنا العزيزة الأبية دائما بعزة الله وبإباء الإسلام مع ثقتها في أن المنهج الإسلامي والدستور القرآني هو الأسمى والأكمل والأنفع للحياة وللناس، ديناً ودنيا، علماً وعملاً.. ولا تنكر شيئا مما سار النهج القويم وأوصى به القرآن الكريم ومنه مبدأ اللقاء الفكري، والحوار الوطني. ففي ذلك خير كثير.. وكم شاور النبي صلى الله عليه وسلم وهو الذي لا ينطق عن الهوى. كم شاور أصحابه في بعض أمور الحرب، وخبرة الحياة. وكان رأي الصحابة في بعض الأمور مأخوذا به وموافقا عليه من النبي صلى الله عليه وسلم والأمثلة كثيرة لا مجال لسردها.
من هنا وتجاوباً مع مطالب الحياة وتطورها كان إعلان قيادتنا الواعية بكل تطور مفيد للخير، محقق للسلام والنفع والطمأنينة والأمان.. كانت الدعوة الى قيام حوار وطني هادف جاد مخلص بناء.. لا قهر لرأي، ولا حجر على فكر، ولا تكميم للأفواه، ولا كبت للعقول ما دام هذا الرأي وهذا الفكر مساهما في تحقيق ما تصبو إليه أمتنا من مزيد الحياة الرغدة الآمنة المتطورة في إطار من عقيدتنا الغراء الخالدة.
وهذه الدعوة إلى الحوار الوطني هي إضافة الى جزيل عطاءات قيادة هذا الوطن القائد، وتلك الأمة القدوة والمحتذى. من هنا كان حقا علينا جميعا ألاّ نبخل برأي، أو نحجب فكراً، أو نمنع عملاً يُساهم في هذه المسيرة المباركة إن شاء الله. وإني لأرى أن نعرف بعض الملامح والدعائم التي يقوم عليها الحوار عاما والحوار الوطني خاصة، حتى نهتدي ما استطعنا بذلك.
* ثم قال تعالى: {قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً) (الكهف:37)
* وفي اللغة: الحوار حديث يجري بين شخصين أو أكثر.. ويأخذ الحوار أسماء أخرى كالمجادلة، والمناظرة، أو التفاوض، وكلها أسماء تحمل المعنى العام للحوار، وتهدف إلى ما يقصد من خير وراء هذا الحوار، أو تلك المجادلة.
* إذا كان من شيء يجب أن نتعرف عليه حول الحوار الوطني فإنه بهذا الوصف (الوطني) ليس حواراً سياسياً أو حزبياً أو سفسطائيا متعنتاً، ضيق الأفق، محدود الرؤية، لكنه حوار يتصف بأنه وطني، والشيء الوطني هو المنسوب إلى الوطن أي أنه شأن من شؤونه، قضية من قضاياه، ظاهرة من ظواهره، لقاء تجمعي من أجل نفعه وتقدمه، لقاء من أجل جوانب الحياة الوطنية في محاورها الاجتماعية، الإنسانية، التنموية، الاقتصادية والثقافية إلى غير ذلك من صور الحياة في هذا الوطن.
* وعلمياً فإن للحوار أركانا يقوم 3عليها. فهو ليس مجرد لقاءات عفوية تجتمع وتنفض. لكنه حوار جاد ذو ثوابت ودعائم يقوم عليها ويستند في عمله إليها.. منها أنه لابد من وجود أطراف للحوار، يدلي كل طرف برأيه في الأمر المطروح لساحة الحوار. ولابد أن يكون الموضوع حيوياً يهم كل فلذات الوطن أو معظمها، ويتصل بجوانب بنائه وعمرانه. فلا يصح أن يفتح حوار وطني في قضايا شخصية أو ذاتية تخص أفرادا أو جماعة منفردة.
* ومن أسس الحوار الحيّ البناء أنه لا يُفرض على أحد، ولا يُجبر عليه طرف، إذ يجب أن يكون حرا اختياريا، نابعا من إرادة صادقة مخلصة راغبة في المشاركة الوطنية الهادفة.
* ومن أهم دعائم الحوار الوطني الناجح أن يوجد اهتمام مشترك من الجميع حول مصالح مشتركة تتصل بحياة الجميع وسعادتهم.. الآن وفي مستقبلهم.
* والذي يدعم الحوار الوطني ويحيله الى حوار مثمر جاد يؤتى خيرا كثيرا هو إيمان كل طرف، وكل فرد من جماعة المتحاورين أن الحوار وتبادل الرأي والسماع للآخرين هو أفضل الوسائل للتوصل الى الهدف المنشود إلى تحقيق الخير المراد للوطن.
* ذلك لأن مما يهدم دعائم الحوار أن يكون هناك متحاور يجيء لمجرد بلبلة الأفكار، وإشاعة زعزعة القناعات، لدافع شخصي، أو تعصب فكري. هذا ليس من حقيقة الحوار بل هو من باب الأنا المعتزة بالذاتية المنفردة، أو انغلاق الفكر على رؤية قد تكون معتمة مضللة. لأن الحوار الجاد المخلص هو الذي يخلع ثوب الفردية، ويلقي رداء العصبية وينخرط في إطار الجماعة والآراء الكبرى.. فالرأي للرأي ألف رأي.
* وقبل الحوار يجب إعداد القوة، وتحديد الأمور، وتأطير القضايا واختيار المتحاورين من أصحاب الرأي والاختصاص. كل في ميدانه لأن الحوار ليس نزاعا بين أطراف يجب الانتهاء منه وحسمه، ولا هو معركة بين طرفين تأخذ هدنة، أو يتفق على مصالحة بينهما وإنما هو لقاء فكري علمي حول قضايا وطنية مصيرية كبرى، تشترك فيها كل الآراء المتخصصة في مجالها، دون شطط في الفكر، أو جمود في الرأي، ودون تنطع في العرض.
* الحوار الهادف البناء هو الذي يؤدي إلى نتائج واضحة، ويحسم الجدل حول امور متداخلة، هو الذي ينتهي بالحق، ويؤدي إلى الخير.
* وفي الحوار يجب ان تحدد العلاقات بين المتحاورين في إطار من المساحة المتاحة للرأي، دون حجر على رأي، أو مصادرة فكر. إلاّ ما يخالف الدين والشرع ويتعارض مع مصلحة الوطن العليا.
الحوار ليس جدلاً أحمق، ولا إعلانا شخصيا بالقدرة على الحوار والجرأة في الكلام لكنه علم كبير، أو فن عريض، يحتاج إلى تخطيط وإعداد جيد ويقوم على آليات محددة. ويتكون من مراحل فكرية مرتبة. هو مثل كل علم له مبادىء كلية، وأصول وحدود مرعية، وطرائق وأشكال متعبة.
* الحوار لا يتناول القضايا الوقتية الحاضرة فقط، بل يمتد وهو الأغلب إلى القضايا المستقبلية الكبرى التي سوف تتأثر بمستحدثات الحياة وتطور العلم والعالم في شتى جوانب التغير العالمي المطرد. فالمتحاورون ذوو الاختصاص لا يقفون عند الآن فيما يتحاورون فيه؛ بل يرسمون خريطة المستقبل الممتد للأجيال القادمة، ويضعون نصب أعينهم ما سوف يجيء من تغير في هذه القضايا المطروحة للحوار. ذلك لأن الوطن يعمل دائماً للآن وللمستقبل أكثر. والمستقبل لابد أن تحدد معالمه وفق آراء ناضجة ناصحة واعية مخلصة صادقة، بكل الحب والولاء والعطاء لهذا الوطن.
* وإذا كان الحوار علما أو فنا كبقية العلوم أو الفنون فإن له اخلاقياته التي يقوم عليها، وسلوكياته التي يتسم بها ذلك أن الحوار عملية إنسانية واجتماعية تتصل بمصالح الناس والوطن، من هنا فإنه لا يُقبل في الحوار الحر الشريف الصادق لا يُقبل مبدأ الخداع في الكلام، أو التضليل في الأدلة، أو العموميات في النتائج، كما لا يقبل التسلط برأي، أو الظهور بالقوة المقنعة دون حق، أو تجميع آراء لمناصرة رأي غير سديد، لأن الحوار الوطني الحر النزيه هو الذي تتوارى فيه المصالح الشخصية، وتتلاشى فيه النزعة الذاتية، هو الحوار الهادف إلى دعم مسيرة الخير والارتقاء بالوطن، والمشاركة البناءة في مزيد من انجازاته التطويرية في كل مجال من مجالات الحياة والعمل فيه.
* ومن دعائم نجاح الحوار الوطني ان تُختار عناصره من ذوي الكفاءات العلمية والتجارب العملية في مجالها لأن دخول عناصر غير متخصصة في موضوعها سوف يفسد نصاعة الحوار، ويثير الشكوك في مسيرة الآراء المخلصة الصادقة التي جاءت ولاءً وحبا للخير، وصدق دعم لمسيرة هذه البلاد.
* وللمحاور الذي يُختار بجدارة واقتدار آراؤه الواضحة، وأفكاره المحددة الموثقة. ليست تلك الآراء المبهمة، أو الأفكار المتداخلة لأن في ذلك تضييعا للوقت وبلبلة للفكر. كما أنه لابد لهذا المحاور المخلص أن يكون مؤمنا بما يطرحه من آراء وما يقدمه من معارضات أو موافقات ليس مجاملاً لسلطة أو خائفا من فئة؛ بل يجب ان يكون حر الرأي حر الفكر.. عن قناعة وإيمان.
* كما يجب على المحاور الراغب حقا في تقديم الخير لأهله ووطنه والناس جميعا أن يجهد نفسه قليلا قبل الدخول في الحوار، مجهزا عدته العلمية، ودلائله العملية، وكل ما يتصل بموضوع الحوار من أمور وقرائن وأمثلة وتجارب، حتى يكون بحق مشاركاً مخلصا في الوصول الى الحقيقة المنشودة لا استهلاكاً للكلام العام، ذلك لأن الموضوعية هي اهم سمات المحاور المتميز، ودأب المشارك المخلص الواعي.
* وقال تعالى: {وّلا تٍجّادٌلٍوا أّهًلّ الكٌتّابٌ إلاَّ بٌالَّتٌي هٌيّ أّحًسّنٍ} *العنكبوت: 46*.
وهذا هو حوارنا الوطني ولقاؤنا الفكري.. هدف نبيل، وفكر حر مستنير ووعي وسماع ووصول إلى الصراط المستقيم. (وللحديث بقية).
|