أسماؤها
يسمونها في الحجاز الشريفة نور ويسمونها في نجد أم محمد، يسميها الشقيقات والأشقاء ماما حتى بعد أن صار عدد منهم هم أنفسهم آباء وأمهات، يسميها أحفادها ماما نور، يسميها النهار طلعة الشمس، يسميها عمال ورشها طليعة العمال والمدافعة عن حقوقهم ضد نفسها، تسميها خالة نفيسة وبقية القريبات شقيقة القمر، يسميها زرع بيتها الماء، يسميها السهر قناديل الليل وأقماره، يسميها المرض عزائم الشفاء، يسميها العلم أواره وناره وعناد العمى، يسميها حديد ماكينة خياطتها وحرير خيوط تطريزها ساكبة شلالات الضوء في حنايا الجسد وجماد الأقمشة. يسميها العدل إغاظة الظلم، يسميها ورعها ودعاءها وذكرها وتحديثها أجمل الأسماء عائشة وسكينة. تسميها الكواردث نشوة الصبر، تسميها مجالس العزاء مكائد الجزع، يسميها اليأس قلق الأمل وبوارقه الوامضة، تسميها الصحراء عرائس المطر وأخيلة السراب، يسميها الشتاء مواقد العشاق ورعد المواعيد البعيدة، يسميها الخريف ذهب الأغصان وخضرتها المخبئة، يسميها الصيف صبا الاتجاهات وصبابات بزوغ البلح، يسميها الربيع نسغ الزهر وغريمة الحوريات، تسميها جاراتها مجيرة الأحزان، يسميها البحر غواياته وغضبته وأمواجه الناعمة العاتية، تسميها نكهة أكلها الذي لا تتربع عليه وحدها ورائحة قهوتها التي تعرف من مطلع الشارع ماوية. تسميها الخصومات عدوة الأحقاد وزلال الصفح، يسميها الرحيل عرائش الأشواق، يسميها الشعر غيد الإلهام تسميها الأرغفة قمح السنابل وأنس الأفران، يسميها البصر شعاع العيون، تسميها الأحلام ريش الصحو وأجنحة المنام. يسميها قلبي وطني قماطي الأول وكفني الأخير وطرحة عرسي، طفولتي التي لا أنفطم عنها وجنيات قصص المكتبة الخضراء، أهلي الذين أذود عن ظلمهم إلى أن تدمى شفتي، دفاتري التي أطعمها نحول أصابعي وارتعاشاتها، حبري الذي يضيء عتمتي بالسهاد، لوعتي التي لا أريد ان افقد لواعج أشجانها وتقرحات أوجاعها، السعادة التي لا اكف عن تضييع أثرها والنعم التي أعلم والتي لا أعلم بوجودها في حياتي ولا يحصيها إلا ربي.
سرها
فما هو سر تعدد أسماء امرأة واحدة يجتمع فيها هذا العدد من أطياف النساء اللواتي لا شغل لهن إلا تفجير ما لم تجربه الحواس من درجات النور وشحناته الموجبة في هذا السفر الكوني.
* و.. لماذا، لماذا لايسميها الياسمين والنرجس والفل البلدي باسمه وقدكانت تصحو مع نجمة الصبح لتسقيه بسلسبيل لمساتها من عذب جوفها واجاجه، لماذا لا يخلع عليها الحمام هديله ولم يمر يوم دون أن تدعوه لالتقاط الحب من كفها. لماذا لا تسميها المآتم شموعها ولم يخطف الموت بعيدا أو قريباً إلا واستطاعت أن تطفئ نيران الفراق وتبلل جزع الأهل بشهد كلامها وقوة إيمانها. لماذا لا يعطيها الحلم ارفع أو سمته وهي التي تتخذه سيدا لأخلاقها في الرخاء والغيظ. كيف لا تكتب الأبجدية اسمها بكل الحروف وهي التي لا تنام إلا وكتاب الله بين حاجبيها وجوانحها. كيف لا يعطيها التفاح رائحته وهي التي لا تستريح ولا تتعب من إثارة الأسئلة والدق على أبواب المعرفة.
أخيلتها
نعم هذه هي بعض من صور تلك المرأة الأسطورية وأخيلتها التي لا يكف النخيل عن التشبه بخيلائها حين تصبر على شح الماء وتتكبر على التشكي من قسوة الصحراء. نعم هذه بعض الملامح الشامخة لتلك الأم التي لا يرتدع المطر عن تقليد تواضعها حين يتنازل عن علياء طبقات الجو العليا وينحني بحنو على الأرض ليسقي عطشها ويرحم تشققاتها.
وأمي في هذا ليست ملاكاً فهي كمعظم أمهات ذلك الجيل اللواتي امتشقن مشوار الأمومة وهن بعد صبايا صغيرات لم يتجاوزن الثالثة والرابعة عشرة فصارت الأمومة مدرستهن الأولى فصرن التلميذات وفي نفس الوقت المعلمات في تلك المرحلة العجلى من فجر العمر. ولأنهن نساء من لحم ودم ولسن «منحوتات» فلم يكن امامهن الا أن يكافحن لبلوغ مواقعهن الإنسانية الرائدة وإن كان ذلك بقمع ذواتهن البشرية وشهواتها وطموحهن الخاص ليكنَّ أهلا لمهمة الأمومة المبكرة.
ومع ذلك أو له كانت أمي ولا زالت سيدة تتميز بملكات شخصية شاهقة استطاعت استلهامها بشكل يومي وبأشكال مبتكرة لتكون بها ملكة تملك زمام أمرها وأمر أسرتها في أحلك الانكسارات. فتنفض غبار الكبوات عن ركبتها وتقف تواصل تحمل تحديات الحياة من جديد بعد أن صهرتها نيران التجربة السابقة استعدادا لتجارب جديدة تكشف لها المزيد من صلابتها وتدفقها وطاقاتها الخارقة في تحويل الألم إلى أمل والأفاعي إلى ينابيع والانطفاء إلى نور.
* شهدت في طفولتي تلك الشابة تشمر أكمام قميصها القطني البيتي عن زبدة الحليب وتفتتح مشغلا لتعليم الخياطة لمجموعة من فتيات قدمن وقتها للتو من تهامة الى الطائف مع أزواجهن الذين كانوا على ما أذكر من الجنود الشباب. وبعد قليل من الوقت مثل زمن الحكايات صار أولئك البنات اللواتي لم يكن قبلها يرتدين إلا قماش غير مخيط يلف من النحر إلى أسفل الساق يبدعن في حياكة فساتين فاتنة التفاصيل كما يبدع فنان عشاق في تشكيل اللوحات.
* وفي أوج عنفوانها كانت تجمع كل من تعرف ممن يعاني اطفاله من تعطل في الأطراف بسبب شلل الأطفال أو ما شابهه وتضرب لهم بأموتها مثالا في تحدي الإعاقات بالتمارين المنزلية روحياً وجسدياً. ولا زال عرقها يصير بحيرات أغرق فيها حياء من حبها وتضحياتها كلما رفت في الذاكرة صورة طفلة تطير وقد كان من الممكن أن تكون تلك البريئة مثل مهر معقوف وسط سخرية الصغار.
* فتلك الأم الملحمية كانت لو أن التسجيل التاريخي يهتم بسيرة المكافحات ممن لا يلمعهن الإعلام من أوائل نساء هذا الوطن اللواتي اعطتهن الدولة الحق في الحصول على سجل تجاري باسمها الصريح قبل ما يزيد على ربع قرن، وهي في عملها في تلك المرحلة التي سجلت أول تجارب السيدات في الأعمال الحرة في مجال النشاط الاستثماري للقطاع الخاص لم تكن تعتمد كما لم يكن شائعا وقتها على العمالة المستوردة بل كانت تباشر عملها التجاري بنفسها.
* لم يلتحق بعملها عامل أو عاملة ممن لم يتحرر من نير الأمية إلا وبإصرار عملت على إلحاقهم بمدارس محو الأمية أو المدرسة الليلية التي كانت قد وفرتها الحكومة في معظم الحياء.
* قبل أن يدق منبه الأوتوبيس الذي يحملني إلى المدرسة الخامسة بحي الرويس بجدة حوالي السادسة والنصف صباحا تكون نوارة قد لمعت زجاج الشبابيك، بيضت أواني الفضة، شطفت بلاط البيت، نشرت غسيلها الزاهي على الحبل، سقت نباتات الريحان والشار والنعناع، حضرت طعام الإفطار وسندويتشات الفسحة وجلست فلقة الفجر أمام المرآة تتجمل لاستقبال يومها بثغر يقطر برحيق الرضا والنشاط.
* غادرت رغد وتمدن الحجاز الى تقشف نجد وضراوة بداوتها الأصيلة على لوري تعصف به سموم النفود والدهناء. تركت بيوت الأجور بطبقاتها العالية ومشربياتها الواسعة المعشقة وبطارمتها المخمل و«كرويتها» المشغول بالكنويش بمكة المكرمة ونزلت في بيوت الطين الواطئة بشبابيكها المستطيلة الضيقة و«زلها البسيط و«ديوانيتها المأججة بدخان الوجار» في الرياض. وقد كانت الرياض القديمة «بعجها» و«مشاقها» و«تداوي أطفالها من الإسهال وسوء التغذية برش البطن بمسمار محمى غير الرياض العاصمة العصرية التي نعرف الآن. لم تسأل الصبية الصغيرة عن جرار الماء المبخرة بالمستكا المزينة بحب الهيل والقرنفل ولا عن طعم «المبشور والقطايف والسلات» وهي تحمل على خصرها الناحل قربة الماء وتتبلغ «بالقرع والقفر» القليل. لم تكن تحن إلا لمحيا أمها بالمحرمة والمدورة الذي يشبهه محيا «خالتها» أم زوجها وإن كانت بالدراعة والشيلة. وكان أشد ما تفتقد هو زيارة الحرم وصوت ذلك الأذان الشجي الرقراق وهي تنغمس من رسغها إلى أعلى ساعدها في تعلم الرق والقرص والجرش وفي تحمل غثيان الوحم ثم آلام المخاض ولادة تلوى أخرى بدون «داية» (قابلة) أو سرير ولادة إلا فرشة الرمل ومساعدة المجربات من النساء.
* وقفت تلك المرأة «الرمحية» لوحدها بعد وفاة شريك حياتها لما يقارب خمسة وعشرين عاماً تحف إحدى عشرة روحا ومنهم من لم يبلغ سن المدرسة بالحزم والحنان وكل همها الا يحتاجوا إلى أحد سوى للواحد الأحد.
* كان كحلها وعيونها لم تودع التماعات الشباب بعد السهر على متابعة دراسة البنات والأبناء، الانحناء على المريض حتى يشفى، متابعة وانتظار المسافر حتى يعود. كان حناؤها شكة إبر الخياطة والتطريز في راحة يدها وتحت لحم أظافرها. كان عطرها ولا يزال وضوءها وكانت أفخر أثوابها ثياب الستر والسمت والشجاعة اللامتناهية في التحيز للحق.
مدرستها
* من غير نور يعلمني منذ نعومة أظافري ولا تزال حتى ساعتي أن كرامة الإنسان من كرامة أرضه. من غيرها يزرع في نخاعي الشوكي أن العز خارج الأوطان هوان كلما أغرتني هجرة أو راودني وسواس السفر. من سوى تلك المرأة الشموسية الحرون علمني التمرد على الاستسلام وشرح لي الشرور البشرية وأساليب مقاومتها والنضال ضدها. من إلا نورها يكشف لي الظلام ونقيضه، الخواء ونقيضه، السبات ونقيضه ويترك لي مساحات من التسامح لاختيار حريتي في ضوء الضمير. من غيرها يردد أن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ مطلع حياته شاباً عصامياً وأن السلالات ليست إلا لحفظ الأنساب لا للتعصب الأعمى. من سواها حرضني على الكفاح لحقوق النساء وعلى الحفاظ على حقوق الرجال كما جاء في القرآن والسنة وأن النساء شقائق الرجال. ومن سواها عرفني في سن صغيرة الخيط الأسود من الأبيض والألوان اللامتناهية التي تقع بينهما أو خارج نطاقهما معا.. ليست قريحة الكتابة ولا بنات الأفكار ولا شياطين الشعر ولكن أسطورة امرأة اسمها نور استحقت بعرق الجبين وكد اليمين وحمل الأمانة وسطوع البصيرة أن جعل الله الجنة تحت أقدامها.
* بزهد الفلاسفة تنازلت عن حر أحلامها من أجل ملاحقة أحلامنا.
نور لا يستحوذ
* فكيف يا سيدتي التي كنت تحملين الفلك المشحونة بالمشاغل وصخب الأطفال على كتفيك وتجوبين بها الفلوات والأفلاك وتقطعين بها الجبال والأودية، تعبرين برشاقة البرازخ والمضائق وتسبحين ضد التيار في البحور والمحيطات نسامح أنفسنا وقد تركنا هشاشة العظام تنتقي قوت القلوب وتنهش أرواحنا. كيف نسامح أنفسنا وقد سمحنا لهذا اللص الصامت أن يسرق منك نخاع المفاصل ونحن مشغولون بحبك الأسطوري لنا. ومع ذلك تشرق ابتسامة نور من قارات لأرض السبع وهي تقترح أن نكون جمعية لتوعية النساء مبكرا بمخاطر هشاشة العظام تقول ذلك وهي تشير إليَّ أن أشرب كأس الحليب الذي تكون حسناء أو أنوار قد أحضرته لها. فهل هذه أم أو نور يهل من هامة البلاد وأنقي هواءها فلا أملك الاستضاءة به وحدي وأن أردت.
* أمي وليس لي منية من ملك الدنيا إلا رضاك بعد رضا الرحمن فإني ألثم على البعد جبينك وكتفك وركبتك وكعبك صباح مساء وأسأل الله أن يحرمك على الأمراض والشرور والأخطار في الحياة الدنيا ويحرمك على النار في الحياة الآخرة بعد عمر مديد بالأعمال الصالحة والعافية ومحبة عباده. كما أسأل الله يا نور العقل والعاطفة ألا يحرمنا من نورك في ليلنا ونهارنا ويجعله أجراً لك أنه سميع مجيب. وأي كلمات تليق بقامة الأمهات كتلك الأم التي لم تعلمنا إلا الانحناء لله وحده.
|