في المقالين السابقين تحدثت من باب المؤانسة والإمتاع عن مشكلة بعض الناس الذين تتحول ممتلكاتهم وأساليب عيشهم ومحيطهم إلى نماذج. لا أعرف هل أحسدهم أم أشعر تجاههم بالأسى. فمرة أرى أن هؤلاء يكيفون الواقع ليجعلوه أكثر ملاءمة للعيش أي حيلة سيكولوجية يتحايلون بها على أنفسهم وبالتالي فهؤلاء يعرفون في أعماق أنفسهم أنهم على غلط. وفي بعض الأحيان أرى أن هؤلاء تربوا على هذا النمط من التبرير حتى بسط سلطانه على أرواحهم. فهم في النهاية ضحايا الحكمة التي تقول: القناعة كنز لا يفنى. فقدوا حساسية الطموح والتعارك والرفض. وأصبحوا يرضخون بسهولة للواقع الذي يعيشون فيه. وأحياناً قليلة أرى أنهم على حق. عندما ألتقى أبو تركي وشلته في الاستراحة لا أعرف إلى أي التفاسير أميل. يدفعني أبوتركي دائما إلى مراجعة الماضي. مراجعة سنوات التعليم الأولى في الابتدائي. كانت حيطان المدرسة مليئة بهذا النوع من الحكم. ربما دخلت عقولنا واستقرت فيها كبرنامج عمل وفضيلة أخلاقية لا مجرد حالة دفاع مؤقتة عن واقع لا يمكن التغلب عليه. نتعامل معه على أمل فرصة الخلاص منه.
لكن مثل هذا الكلام صعب اثباته أو نفيه. لأن حالة أبوتركي المادية متوسطة ولا يمكن أن يشتري مرسيدس. يمكن أن يشتري سيارة أمريكية كروان فكتوريا أو كابرس إذا ضيق الخناق على عائلته. ولكن المسألة بالنسبة له أولويات، ودفاع عن دفاع يعني الرجل قاتل كثيراً لاثبات أن الهونداي أفضل سيارة في العالم. لا يمكن أن ينقلب عليها ويشتري سيارة أخرى حتى لا يخسر ادعاءاته. أصعب شيء في ادعاءات أبوتركي هي الادعاءات الأخلاقية. اقتران ممتلكاته بمبررات اخلاقية.
أعرف شخصاً غير أبوتركي انهارت حياته وفقد كل شيء بسبب أنه طور قدرة على تحويل الأخطاء إلى مميزات. لا يقر بفشله وإنما يدافع عنه ويبرره وفي الأخير يضطر أن يتمسك به. خصوصا أن هناك آلية في اللغة تساعدنا على مثل هذا. فما يمكن أن أسميه تبذيراً يمكن أن يسميه آخر كرماً. ما يمكن ان أسميه بخلاً بسميه آخر اقتصاداً. وأكبر مشكلة تواجه الإنسان في هذا السياق هو تغلغل العامل الأخلاقي في الأمر.
عندما تحدث أبوتركي في بيانه عن فضل الهونداي على المرسيدس لم يكتف بالعوامل الاقتصادية. فالمرسيدس يكلف مائتين وخمسين ألف ريال بينما لا تكلف الهونداي أكثر من أربعين ألف ريال. ست مرات أكثر. هل الفرق في الجودة والمميزات تبرر هذا الفرق في السعر. فيقول مستحيل ويكررها أكثر من مرة. إذاً مجرد شراء المرسيدس هو تبذير مهما كان مستواك المادي. ثم يسرد طبعا كل الحكم والأدلة التي تدين التبذير بكافة صوره. في المنطق الأول يمكن أن تصمت وتترك أبوتركي لأنه كسب نقطة هنا. ثم يقرن جدله بقضية هامة أخرى. فيقول: ثم يا أخي المرسيدس لم يجرب بينما الهونداي مجربة. كل الذين يشترون مرسيدس لم يجربوها. يعني من البيت للعمل ومن العمل للبيت يمر عام كامل ما مشت أكثر من عشرة آلاف كيلو بينما الهونداي شفها تكد في الشوارع مع أصحاب الليموزينات ما تقول أح. شفها مع البزارين شفها في كل مكان لا تكل ولا تمل من الكد. أنا على ثقة أن بعض القراء أقتنع برأي أبوتركي خصوصا الذين أحوالهم المادية لا تسمح لهم بشراء مرسيدس. قضية التبذير هذه يمكن ان تنسحب على كثير من نواحي الحياة الأخرى. يمكن ان تتعرى الحياة تماما ونعود إلى حالة البداوة إلى حياة التقشف. لأن أبو تركي لا يضع حدا نقف عنده للتنازل عن الرفاهية. لا يمكن لأحد أن يضع حدا مثل هذا. ففي السوق الآن ساعات لا حصر لها تتراوح أسعارها من مئات الألوف لتصل إلى أقل من خمسين ريالا وكل واحدة من هذه الساعات تؤدي الغرض الذي اخترعت من أجله الساعات. ولا أظن أن كل من يؤيد أبو تركي في رأيه أنه الآن يلبس ساعة بخمسين ريالا وإذ كان الأمر كذلك فهو لا يؤيد أبو تركي من باب اخلاقي وإنما لأسباب اقتصادية تخصه. هو يكره التبذير لأنه لا يقدر عليه فقط. وإلا ما الداعي أن يلبس ساعة بثلاثمائة ريال بينما في السوق ساعة بخمسين ريالا. تبذير على قده. أحياناً كثيرة أرجع كل ادعاءات البشر إلى عامل اقتصادي. كلما زاد الإنسان فقرا زاد عيار الأخلاق في حياته. والدليل في صيفنا اللاهب الآن أن الأسر التي تملك هي التي تتندح الآن في لندن وباريس أما الأسر التي لا تملك فهي أكبر مؤيد لمصايفنا المحتشمة.
|