كنت أشرت في ختام مادة (الابتكار) - وفي هذه الصفحة/ عدد 10766 - بعضاً من العناصر التي تسمو بالنتاج الشعري.
وأحب - هنا - طرح ذلك بشيء من البسط، لعلي أوضح شيئاً من الغموض، وأيضاً أزود القارئ - وبالأخص الشاعر - بما يراه أهل ذي الصنعة مما يعلو به وبالقيمة الفنية بالنتاج، أو ما يعين على خلود شعره.
قال د. أحمد الخاني في رثائه لأبي الحسن الندوي - رحمه الله -:
وعابوا على روض الأزاهير عطره
فعطر عطاء المبدعين عجيب!
ثم اتبع ذلك بقول أديبنا (سعد البواردي):
(وأحسب أن الشعر ليس نظماً تتناثر درره، وإنما مشاعر متدفقة مشحونة بالصور الجميلة، والأخيلة التي تتحرك على إيقاع الإبداعية والجمالية والإثارة والتأثير).. ثم استشهد بقول الأول:
ما الشعر إلا ما تناظم عقده
مما تناثر دره، أي جمعه... لا فرده
وقد أثرى عن مقامه الكثيرون كالبارودي - رحمه الله - في مقدمة ديوانه:
(من أتاه الله منه - أي الشعر - حظاً، وكان كريم الشمائل طاهر النفس، فقد ملك أعنة القلوب، ونال مودة النفوس.
إلى أن يقول عنه: ولا غرو.. فإنه معرض الصفات، ومتجر الكمالات..) إلخ.
.. وتثميناً لوقت القارئ وظناً بحظي منه.. ومن المساحة المتاحة (هنا) أدلف المادة مباشرة.
العناصر:
أولها: الارتشاء من المنهل العظيم (القرآن الكريم)، والاستفادة من بلاغته المحكمة.. كما يفعل كبار الشعراء - مقاماً.. لا سناً! -
* قال المتنبي - في مآسيه المترادفة:
ضاق بي ذرعاً من أن أضيق به
زمني.. واستكرمتني الكرام
وثانيهما: الاغتراف من معين السنّة الشريفة التي أعطي صاحبها (صلى الله عليه وسلم) جوامع الكلم، - يختزلها أحمد شوقي بقوله:
وما عرف البلاغة ذوبيان
إذا لم يتخذك له كتاباً
ف/ من توجيهه صلى الله عليه وسلم (ما نقص مالٍ من صدقة).
قول الأعرابي - مطابقاً:
أنت للمال إذا أمسكته
وإذا أنفقته فالمال لك
ثالثهما: احترام الآداب العامة والخلق القويم، فلا يمس عقيدة الأمة ودينها.
- نبا إلى هارون الرشيد- رحمه الله - نظم أبو نواس:
ما جاءنا أحد يخبر أنه
في جنه من مات أو في نار
فما كان أيام إلا وسجنه حتى استتاب، وثاب إلى رشده. -
رابعها: التمعن والتدقيق في المفردات المنتقاة، أي: لا يبتذل بالكلمات أو المعاني التي يستخدمها، وقد عتب سيف الدولة - وكان نقاداً حاذقاً - على مدح (الخالديان) لقوله:
فغدا لنا من جودك المأكول وال
مشروب.. والمنكوح والملبوس
بقوله: أحسنت إلا في قولك (المنكوح) فليست مما يخاطب بها الملوك.
.. وقد قال ابن الوردي - في (لاميته): ما أحسن الشعر إذا لم يتبذل
خامسها: أن يدع المواجهة المباشرة في ذهن المتلقي، فلا يصف له الشيء كما يراه، وكأنه يشرح لأعمى!
قيل للمغربي: كيف ترانا، قال:
كأننا والماء من حولنا
قوم جلوس حولهم ماء
أو يسفّ به... كقول أبو العتاهية:
مات والله (سعيد بن وهب)
رحمه الله (سعيد بن وهب)!!
فبالله ماذا يضيف (هنا) - سوى الوزن والقافية - إلى الذائفة.
لكن.. كما يفعل أبو الطيب مخاطباً (كافور) بقوله: أنت الحبيب! ثم يستجمع ملكته.. ليتم:
أنت الحبيب، ولكني أعوذ به
من أن أكون محباً غير محبوب
فإن ترك المباشرة في المخاطبة تحفز المتلقي إلى التسلسل مع خاطرة الشاعر، والاتيان على المعنى بعد جهد موات.. أو مواز بتمعن (البيت).
سادسها: .. في (المقابل): أن يدع الغموض المبهم الذي يصرف القارىء عن اتمام القصيدة، كما يفعل بعض قباطنة الحداثة - التي يكفيها سوءاً هذا المنحى - وهل أجمل من هذا الإيضاح - الفضاح - للهوى:
والله ما طلعت شمس ولا غربت
إلا وذكرك مقرون بأنفاسي
ولا شربت زلال الماء من عطش
إلا وجدت خيالاً منك بالكأسِ
ولا جلست إلى قومٍ أحادثهم
.. إلا وكنتِ حديثي بين جلاسي
أيضاً/ لا يعاضل أو يتقعر في معاني طرحت بسلاسة، فيلبس المعنى إلباساً غير قياسه.
قال أعرابي - يمدح المأمون:
كأن آدم حين وفاته
أوصى إليك بتركة الأبناء
وهو يطمع برفده، فما كان من الخليفة إلا أن عنّفه.
.. والأنكأ من هذا - والأمثلة كثيرة - قول سلطان العاشقين (ابن الفارض) يوازي بين بحثه عن حبيبه، وبحث خليل الرحمن ابراهيم عن ربه.. ب:
ناب بدر التمام طيف محي
اك لطرفي بيقظتي.. إذا حكاكا
فتراءيت في سواك العين
بك قرت.. وما رأيت سواكا
وكذاك (الخليل) قلب قبلي
طرفه.. حين راقب الأفلاكا
سابعها: أن يبتكر - يولد - ولا يعيد ما جلد تكراراً، فإن القارئ متخوم بالمعاد المردد، بل يصاب بالسأم الذي يحوله عن قراءة معظم نتاج اليوم.
قال الدكتور حسن الهويمل (معاني الشعر كأوابد الصيد، لا يجد الناقد اللذة إلا بطردها، واقتناصها بعد جهد وعناء).
أي كما يقول أبو نواس - وإن كان يعني (خليلته):
تأمل العين منها
محاسناً ليس تنفد
فبعضها قد تناهى
.. وبعضها يتولّد
ثامنها: أن يأخذ من الفكرة المعروفة، معنى جديداً يصيغه بملكته الحاذقة بترو، وهذا ليس بعيداً لمن يملك القدرة على ذلك، كفعل أبي تمام بقوله:
ليس الحجاب مقص عنك لي أملاً
إن السماء تُرجى حين تحتجب
وحديثاً قال علي محمد العيسى:
أرأيت أسوأ حالة
تُبلى بها نفس الكريم؟
من أن يكون بحاجة
إنجازها عن اللئيم
أمطاره ليست تغيث
.. ولو تكبدت الغيوم!
تاسعها: أخذ الغرض الشريف العفيف، وطرح ما سواه أو ادناه، فإن رسالة الشاعر (العظيمة) تندبه إلى ذلك، إن لم تكن توجبه عليه، وليُعلم أن كلاً مسؤول عما يقول، وقد أجاب (صلى الله عليه وسلم) حين سُئل عن ذلك ب(وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا من حصائد ألسنتهم).
قال جميل الزهاوي:
حبذا الشعر.. إذا
كان مُثيراً للشعور
وإذا كان (نزيها)
كأغاريد الطيور
عاشرها: أو/ أخير - وليس بأخر - وعليه أن يدع (الذاتية) المفرطة، أو الاغراق بالهموم الشخصية.. إلى ربوة آمال الأمة، وأمانيها الغائب معظمها خلف (لو) أو (ليت)!!، أي كما يعتبر البحتري (وبقي لنا.. ليت، ولوْ!)
فإن أكثر ما ضيّع المبدعين هذه القوقعة في الذات وشجونها وأنّاتها!
بمعنى: أن يرتقي بذاته. ويسمو بأهدافه، فإن أكثر ما يتوارى عن التداول هذا (العيب) قال محمد الجيار - رحمه الله -:
إني وُلدت مع الأسى
يوماً، وربّاني السأم
ودخلت معركة الحياة
وما معي إلا (القلم)
وحملت أشعاري معي
للريح يقرؤها.. العدم!
- فهو في (البيت الأخير).. قال المفيد!!
لكني - .. للإنصاف وهذا، مما يستثنى من ذلك - (ولكل قاعدة شواذ) وقبل هذا.. لك قوله صلى الله عليه وسلم: (.. وإن لنفسك عليك حقا) لن أذم الذاتية.. إن كانت دفاعاً عن تُهم قد توصم بالمرء وهو منها.. براء!!.
أو كقول حمد الحجي - رحمه الله -: