لابد من مراجعة سريعة لتاريخ الجودة في العمل، سواء التجاري أو الخدماتي قبل التطرق لأي موضوع يختص بالجودة، وذلك لما طرأ عليه من تغيرات سريعة على حداثته فقد غيرت الثورة الصناعية التي شهدها الغرب كثيراً من المفاهيم السائدة، ومع قيام خطوط الإنتاج Assembly Line ظهرت الحاجة إلى إدارات التحكم بالجودة
Quality Control في العشرينات، وفي فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية استطاع (ديمنغ وجوران) اللذان عملا مع الشركات اليابانية بتقديم التحكم الإحصائي بالجودة Statistical Quality Control كجزء من مشروع ماك آرثر للنهوض وأقنعاها باعتناق مبدأ تحسين الجودة، مما جعل اليابان خلال 20 سنة التي تلت ذلك يتقدمون بشكل لا مثيل له بينما كان الغرب لا يرى حاجة لذلك إذ أن اقتصاد ما بعد الحرب كان مستعداً لتقبل أي منتجات وكان تركيز المديرين منصبا على التسويق وكميات الإنتاج والأداء المالي لشركاتهم.
ومع نهاية السبعينات وبداية الثمانينات تواصل سعيها الحثيث نحو تطوير مبادئ الجودة بدأت الشركات الأمريكية تفقد حصصا مهمة داخل السوق الأمريكي لصالح الشركات العالمية الأخرى المنافسة وخصوصا اليابانية.
وعلى سبيل المثال انحدرت مبيعات الكومبيوترات الأمريكية من 94% عام 1979م إلى 66% عام 1998م وكذلك الأمر في قطاع السيارات حيث وصلت حصة السيارات الأمريكية في السوق الأمريكي عام 1991م إلى 5 ،62 من 3 ،71 عام 1979م مما حدا بمجلة Business Week الأمريكية القول: لقد ولت أيام الخمسينات والستينات حيث كانت عبارة (صنع في أمريكا) Made in u.s.a. مرادفاً لأفضل ما يمكن انتاجه، إن الرسالة بكل بساطة هي: عليك أن تتحسن أو تخرج من المنافسة.
ثم ظهرت بعدها بوادر «ثورة الجودة» Quality Revolution إن صح التعبير في أمريكا ورفعت شعاراً إذا كانت اليابان تستطيع فلم لا نستطيع نحن؟ If japan can why can't we حيث توجهت الشركات باتجاه قيم ومبادئ الجودة.
وفي التسعينات أصبح واضحاً أن موضوع الجودة من أولويات الصناعة وعالم العمال والخدمات في العالم ومن أهم المتطلبات للمنافسة الناجحة في جميع الأسواق.
وللجودة تعريفات كثيرة فمنهم من يعتبرها تفوقا أو تميزاً وآخرون يعتبرونها خلو المنتج أو الخدمة من العيوب، وتعرفها المؤسسة الأمريكية الوطنية للمقاييس (ANSI) والجمعية الأمريكية للتحكم بالجودة (ASQC) بأنها: الخواص والصفات الشاملة لمنتج أو خدمة التي تتيح لها إرضاء احتياجات محددة.
ومن هنا بدأت رؤية الجودة كمرداف لإرضاء العميل، وبالطبع لن يقف الأمر عند هذا الحد لأن المنافسة المستمرة تفرض تطورا في هذ المفهوم لكي يصل إلى تعريف للجودة بأنها (تحقيق أو تجاوز متطلبات العميل) وفي عالم الخدمات التي تدخل خدمات الرعاية الصحية في إطاره، والذي يمثل أكثر من 75% من القوة العاملة في الولايات المتحدة الأمريكية لا يمكن تجاهل أهمية الجودة.
وتشير الإحصاءات إلى أن:
- أكثر من 90% من العملاء غير الراضين لا تصل شكواهم ويعني هذا أنه مقابل كل شكوى تصل للإدارة هناك أكثر من 10 شكاوى غير معروفة.
- حوالي نصف العملاء الذين يقدمون شكاوى يعاودون ذلك إن لم يتم حل هذه الشكاوى.
- لدى حصول مشكلة يقوم العميل باخبار 10 اشحاص على الاقل أما في حالة رضاء الزبون فإن من يتم اخبارهم أقل من ذلك.
- يكلف الحصول على عميل جديد 6 أضعاف الاحتفاظ بعميل حال.
تختلف خواص الجودة بالنسبة للخدمات عن تلك الخاصة بالمنتجات ومن أهم هذه الخواص:
- تقديم الخدمة في الوقت المحدد.
- إتمام الخدمة بجميع عناصرها.
- كياسة وتهذيب موظفي الخط الأمامي (الاستقبال).
- تقديم الخدمة بنفس الطريقة لكل عميل، وكل مرة لنفس العميل.
- سهولة الحصول على الخدمة.
- الحصول على الخدمة بدقة من أول مرة.
- الإيجابية ورد الفعل السريع لحل المشاكل الطارئة.
ويظهر من هذه الخواص أنه على عالم الخدمات أن يهتم بشكل خاص بالتعامل مع العميل وبسلوكيات العاملين، وهذا يعني أن يأخذ بالاعتبار مفهوم العميل لكل من الخواص السابقة الذكر ولا يكتفي بمفهوم المؤسسة فقط لهذه الخواص.
فالسرعة في انجاز خدمة ما ولتكن إجراء تحاليل للدم، أو عمل أشعة، أو كشف الطبيب هي خاصية مهمة للجودة ولكن مفهوم السرعة قد يختلف بين مؤسسات الرعاية الصحية، وكذلك العملاء.
كما أن سلوكيات العاملين في مؤسسات الرعاية الصحية في تعاملهم مع العملاء (المرضى - المراجعين) هي إحدى الخواص الأساسية للجودة وقد وجد أن كياسة ولطافة عاملي الاستقبال إحدى العوامل الرئيسية لإرضاء المرضى وعودتهم للمؤسسة عند الحاجة.
من ناحية أخرى فإن صورة المؤسسة ككل هي عامل حاسم في تحديد توقعات العملاء والمقاييس التي يمكن للعملاء عن طريقها تقييم خدماتها واي اهتزاز في هذه الصورة قد يكلف هذه المؤسسة الكثير.
لذلك تحرص مؤسسات الرعاية الصحية بشكل دائم على تقييم وقياس مدى جودة خدماتها لتلائم توقعات عملائها.
ويتبين مما سبق أن لجودة الخدمات الصحية عدة ابعاد داخل أي مؤسسة يشمل البعد الإنشائي والفيزيائي (شكل المؤسسة وديكورها وعمارتها)، والخدماتي والتسويقي والمالي.
وهذا يعني ان كل شخص في المؤسسة الصحية بمن فيهم العملاء أنفسهم مشاركون في عملية واسعة للجودة وادارتها وهذا ما يطلق عليه حديثاً مفهوم (إدارة الجودة الشاملة) Total Quality Management وفي هذا المفهوم فإن كل شخص في هذه الدائرة يبذل قصارى جهده لتحسين جودة الرعاية الصحية للحصول على إرضاء العملاء من خلال التركيز عليهم والتخطيط الاستراتيجي والتحسن المستمر وتطوير الإجراءات والعمل بروح الفريق.
ويلاحظ العملاء دائماً أكثر خواص ومزايا الجودة في مراكز الرعاية الصحية فموظف الاستقبال في نظر العميل يمثل المؤسسة في تعاطيه وممارسته لعمله ويعكس صورتها في أكثر الأحوال ويميل المرضى لإعطاء صورة إيجابية أو سلبية عن المؤسسة في كثير من الأحوال بناء على إيجابية أو سلبية موظف الاستقبال شخصيا أو على الهاتف، كما أن شكل المؤسسة الخارجي أو الداخلي وديكوراتها ونظافتها وحسن ترتيبها ووجود أماكن كافية ومريحة للانتظار والحصول على الخدمة بشكل مرض بدون تأخير أمر يلاحظه المراجعون ويساهم في إرضائهم.
ومن ناحية أخرى فإن مستوى تدريب وتعليم وكفاءة الأطباء وممرضات وموظفي المؤسسة ومهنيتهم عامل أساسي في إرضاء المرضى.
ويعتبر أطباء أي مركز طبي وإنجازاتهم الطبية السابقة ومساهماتهم العلمية الجزء الأساسي في إقبال المراجعين ورغبتهم في طلب خدمات هذا المركز، وهذه كلها أمور يلاحظها المرضى عند تعاملهم مع أي مركز صحي ويحكمون عليها وعن طريقها يقررون الرجوع لهذه المؤسسة عند الحاجة أو يتكلمون إيجابياً أو سلبياً عنها لدى الجمهور الخارجي ومن هنا تجهد معظم مؤسسات الرعاية الصحية لتحقيق مستويات من الخدمة الصحية التي تتجاوز توقعات المرضى لأهميتها القصوى في استمرارية عملها وتحسن واستقرار وضعها المالي.
ولكن - وهنا نعود إلى عنوان هذا المقال- ماذا بشأن الخواص الخفية للجودة؟
تلك التي لا يراها المريض عند مراجعته للمركز الصحي أو تلك التي قد لا تبدو واضحة لعين المريض من زيارة واحدة للمركز؟ وسنحاول بإيجاز ذكر هذه الخواص لمساعدة المرضى على الحصول على خدمة صحية أفضل تساعد في سرعة شفائهم وانتهاء مشاكلهم الصحية.
الالتزام بالقيم المهنية:
تعتقد المؤسسات الصحية التي تلتزم الجودة باحترام ومشاركة المريض في اتخاذ قرارات علاجه وتترجم ذلك بجملة إجراءات تعتبرها من حقوق ا لمريض مثل إعطائه العناية الكاملة الممكنة ومناقشة مرضه وخطة علاجه وتزويده بالمعلومات الكاملة للحصول على موافقته على إجراء العمليات الجراحية بما فيها معرفة درجة الخطورة ونتائج العملية والتأكيد على احترام خصوصية المريض، وعدم إشراكه في البحوث إلا بموافقته الخطية المسبقة، وإتاحة المجال له للعلاج الكامل في حال قرر الانسحاب من الأبحاث بعد اشتراكه فيها. وبشكل عام يجب اعتبار المريض شخصية هامة جداً VIP ويجب أن يشعر بذلك.
التعليم المستمر للعاملين:
لا ينتهي دور الطبيب أو الممرضة بالحصول على المؤهل العلمي المناسب بالحصول على شهادة التخرج، لأن الطب وما يتفرع عنه من تخصصات يخضع يومياً للتحديث، وتظهر مئات الابحاث في بلدان العالم، مما يضطر الطبيب وعاملو المساندة الطبية أن يبحثوا باستمرار عن معلوماتهم الطبية والمهنية بالمشاركة في الأبحاث وحضور الندوات والمؤتمرات العلمية، والقيام بعملية تعليم وتدريب مستمرة داخل المؤسسة وتقييم عملياتهم الصحية ومحاولة تطويرها بشكل دائم، وتحرص المؤسسات الصحية على إطلاع مراجعيها على أحدث مشاركات أعضاء الفريق الطبي لديها في هذه النشاطات لإعطائه الثقة في سعيها المستمر نحو التطوير والحصول على أفضل التقنيات.
الملفات الطبية:
تحرص المؤسسات الصحية على توثيق كل ما يتعلق بمرضاها من علاج أو عمليات أو أدوية أو حتى مشاكل في سجل صحي مرتب يمكن الرجوع إليه ويحاط بسرية تامة لا تسمح حتى لبعض أفراد المؤسسة نفسها من الاطلاع عليه، فالمعلومات المدونة داخل الملف سواء كانت شخصية أو طبية وضعت فقط لمساعدة المؤسسة على تقديم خدمة صحية جيدة للمريض ولا يجب استخدامها من قبل أي شخص آخر لغير هذا الغرض وتهيئ المؤسسات الصحية الجيدة أمكنة خاصة لحفظ الملفات وأرشفتها يقوم عليها موظفون مؤهلون مهيؤون للتعامل معها بحيث تحفظ من العبث أو الضياع، ولا ينتهي الأمر عند هذا الحد فالمؤسسات الصحية التي تملك رؤية واضحة لإدارة الجودة الشاملة تحدد طرق تسجيل المعلومات، ولا تسمح باستخدام المزيل أو حتى محو أي كلمة داخل الملف وتطلب من موظفيها وضع خط فقط على الكلمة المراد تغييرها، وكتابة الكلمة الصحيحة بجانبها أو فوقها مع توضيح الشخص الذي قام بذلك وهذا ما يحفظ دقة المعلومة وحقوق المريض في حالة أي مراجعة مستقبلية للملف.
ولا تسمح هذه المؤسسات بإصدار أي تقارير طبية أو نتائج تحاليل أو معلومات من الملف مثل أرقام الهاتف أو العنوان لأي شخص آخر غير المريض أو ممن يخوله قانونياً.
تعقيم الأدوات الطبية:
تتجه معظم المؤسسات الصحية للمواد ذات الاستخدام الواحد Disposables في معظم إجراءاتها وعملياتها مما يقلل من خطر انتقال العدوى للمرضى وكذلك لما يمثله من توفير في الوقت والتكلفة والقوى العاملة ولكن يبقى هناك الكثير من الأدوات الطبية التي تدخل في تماس مباشر مع جسم المريض خلال العمليات وما شابهها مما يجب تعقيمها ولعملية التعقيم هذه إجراءات مشددة لا يجب التهاون فيها أبداً مثل تنظيف الأدوات وتنشيفها ونقعها بالمواد المطهرة أولاً ومن ثم لفها وإرسالها لمركز التعقيم الذي يجب أن يكون نظيفا وواسعاً يديره أشخاص مؤهلون تقنياً لهذا العمل لمنع أي خطر من انتقال أي عدوى وللحفاظ أيضا على جاهزية وفاعلية هذه الأدوات عند استخدامها وفي الغالب لا يرى المرضى إلا الجزء الأخير من هذه العملية حين فتحها واستخدامها أمامهم.
برامج التحكم بالعدوى:
تمثل بيئة مراكز الرعاية الصحية بحكم تعاملها مع الأمراض المختلفة إمكانية عالية لانتقال الجراثيم والعدوى لأشخاص لا ذنب لهم سوى وجودهم في هذه المراكز، سواء أكانوا مرضى أم عاملين.
وتقوم المؤسسات الصحية بوضع مقاييس ومعايير واضحة ومراجعتها بشكل دوري تتحكم خلالها بمستويات عمل موظفيها لدى تقديمهم الخدمات الصحية للمرضى.
تتمثل هذه المقاييس بغسل الأيدي بعد كل مريض ومراعاة استخدام وسائل معقمة حين إجراء العمليات إضافة إلى استخدام وسائل تكييف وتهوية تمنع انتقال العدوى والمراجعة الدورية لملفات المرضى لمعرفة حدوث أي عدوى غير متوقعة وكذلك أخذ عينات من أمكنة مختلفة داخل المركز الطبي للتأكد من عدم وجود بؤر جرثومية.
* وجود سياسة واضحة للالتزام بالجودة وتحسينها:
قد ترغب المؤسسات الصحية برفع جودة عملياتها وتعمل جاهدة لوضعها موضع التنفيذ ولكن هذه السياسة لا يمكنها أن تنجح إذا لم يكن هناك التزام واضح من إدارة المؤسسة على تنفيذ وإعطاء الفرصة لجميع العاملين للمشاركة فيها من خلال وضع رؤية واضحة ووسائل وأدوات تنفيذها ومتابعتها والتأكد من حسن سيرها.
والخلاصة أن الجودة (تحقيق إرضاء المرضى وتجاوز توقعاتهم) هي موضوع اهتمام كبير لمراكز الرعاية الصحية التي تركز على الجودة كعنصر أساسي للبقاء وتعنى إدارة الجودة الشاملة TQM بالجهود الشاملة التي تشمل كل العاملين في المؤسسة لتحقيق إرضاء المرضى وتحسين الرعاية الصحية بشكل مستمر.
إن العناصر الأساسية لإدارة الجودة الشاملة في مراكز الرعاية الصحية هي التركيز على المرضى، والتخطيط الاستراتيجي، والقيادة الفعالة، والتحسين المستمر، ومشاركة العاملين وروح الفريق وتمثل إدارة الجودة الشاملة تغييراً جذرياً عن مفهوم وممارسة الإدارة التقليدية، وعلى المؤسسات التي تدعم هذه البرامج أن تهتم بتغيير هيكلياتها وسلوكيات موظفيها لإدارة هذه البرامج ومتابعتها بشكل جيد في مختلف مظاهرها سواء كانت مرئية للمرضى أم غير ذلك.
(*) مستشارإداري عيادات ديرما- الرياض
منذر حمد جبق (*)
|