ألاحظ من علاقاتي بالناس أنه كلما زادت عزلة الإنسان كلما ازداد إعجابه بممتلكاته وبحياته وبأساليب عيشه. تتلبس هذا الإنسان حالة غير واقعية ربما لتعويض الفراغ الذي تشكله العزلة والبعد عن الآخر ولا أقصد بالعزلة هنا العزلة الفردية وإنما العزلة التي يفرضها بعض الناس على أنفسهم من باب الإحساس بالخصوصية والتفرد فهؤلاء لا يماشون إلا ما يتفق مع توجهاتهم ولا يقرؤون إلا ما يؤيد وجهات نظرهم ويفرزون من الأحداث ما يناسبهم ويفرحهم وبالتالي تتضخم عندهم أشياؤهم وأفكارهم أو بالأحرى يضخمون أشياءهم وأفكارهم حتى تصبح هي الأجمل والأنقى لا يمكن بالطبع الغوص في أعماق الناس، ولكن الصدق يبعد مسافة عن الكذب بحيث يمكنك أن تراه إذا أردت. يقال إن حبل الكذب قصير أي لا يمكن لإنسان أن يحافظ على كذبة متشعبة تملأ حياته بحيث يزيف مشاعره بشكل متواصل حتى تغطي محبته كل شيء يملكه ويدور في محيطه إلا إذا اصطبغت هذه الكذبة بصبغة أخلاقية أو بصبغة اقتصادية فمثلا لا يمكن أن يدَّعي أحد دون درجة معينة من الصدق في المشاعر (وليس في الموضوعية) أن الهونداي أفضل من المرسيدس ويعود هذا إلى تضخيم مميزات الهونداي وتحجيم مميزات المرسيدس إلى أن تغطي الأولى على الثانية.
اشترى هذه الأيام أبو تركي سيارة هونداي وحسب المقاييس التي يعتمدها فهذه السيارة هي أعظم وأفضل سيارة في العالم. في الاستراحة أو في غيرها يصيغ أبوتركي مبرراته بطريقة منطقية متسلسلة لا يمكن الشك في صدقية ما يقول إذا كنت من الناس الذين يمتلكون القدرة على الإصغاء للتفاصيل دون البحث في منطلقات النقاش الأساسية أو البحث في طرائق التفكير.
يقول أبو تركي وهو محق: هذي سيارة وهذي سيارة من حيث المبدأ لا يوجد أي فرق. هذي بتوصلك لمشوارك وهذي بتوصلك لمشوارك. وهذي مكيفة وهذي مكيفة وهذي نظيفة وأنيقة وهذي نظيفة وأنيقة وخصوصاً أن تقييم الأناقة يعود إلى الذوق الفردي أي لا مقاييس عامة يمكن الاتفاق عليها.
لكن السؤال متى يبدأ الإنسان يتنازل عن الرفاهية بحيث يقشر الأشياء مما يحيط بها من نعومة أو حتى بهرجة ليتخلص عملياً من الأشياء التي لا لزوم لها أو هكذا يظن. فمثلا، كما يرى أبو تركي، أحد الفروق بين المرسيدس وبين الهونداي، أن المرسيدس تحتوي على مشغل سي دي والثانية تخلو منه ثم يتساءل مع ضحكة استهزاء بريئة: متى تحتاج للسي دي. في بيتك ما فيه سي دي يصير في سيارتك سي دي. إذاً هذه ميزة للمرسيدس لا قيمة لها.
لنأخذ السرعة.. تصل سرعة المرسيدس الافتراضية إلى مائتين وأربعين كم في الساعة بينما سرعة الهونداي لا تصل إلى أكثر من مائة وثمانية في الساعة ولكن من هو الذي سوف يستفيد من هذه السرعة التي تتمتع بها المرسيدس. إذاً هي مجرد زيادة لا مبرر لها فأنت تمشي في الشوارع وفي الزحمة ولا يمكن أن تتعدى سرعتك أكثر من مئة وعشرين. يا أخي الإسعاف لا يستطيع أن يصل إلى هذه السرعة. إذاً هذه ميزة ثانية يمكن الاستغناء عنها بسهولة. إذا كنت رجلا لا تحب المباهاة والتمنظر فالفرق بين المرسيدس وبين الهونداي يكمن في الاسم وأنت مالك ومال الاسم تدفع للألمان مبلغا أضافيا كبيرا لمجرد أن المرسيدس أعرق وأشهر. إذاً هذي ميزة يمكن الاستغناء عنها أيضاً ثم يستطرد قائلاً: صحيح أن الصوت في كابينة المرسيدس أهدأ من الصوت في كابينة الهونداي ولكن الفرق ليس إلى هذه الدرجة ، فالسيارة في الأساس لم تعد للنوم وإنما لتوصيلك إلى هدفك يعني مجرد ضجيج خفيف يفرض عليك أن تدفع مبلغاً أضافياً هائلاً. إذاً هذه ميزة للمرسيدس يمكن وبسهولة تجاوزها. وهكذا تتهاوى الفروق بين المرسيدس وبين الهونداي حتى نصل في النهاية إلى أنهما سيارتان متماثلتان لا أكثر ولا أقل، ولو أصغينا أكثر لبيانات أبوتركي في الاستراحة وخاصة إذا ضرب له «راسين معسل» بطعم الفراولة سنكتشف ما هو أدهى سنرى أن الهونداي أفضل بكثير من المرسيدس وهذا ما سوف نسمعه مباشرة من فم أبو تركي المعطر بنكهة الفراولة.
نكمل يوم الأربعاء القادم.
| 
