بدأ التدخل الأمريكي في العراق الذي تم الترويج له للشعب الأمريكي في وقت سابق باعتباره «رحلة الكنز» بدأ يتحول إلى مستنقع للخسائر. والآن فإن الرئيس الأمريكي جورج بوش يواجه الخيار الصعب الذي حاولت الإدارة الأمريكية تجنبه كثيراً وهو تسليم إدارة العراق إلى الأمم المتحدة. وكما توقعت في وقت سابق فإن تورط الولايات المتحدة في العراق يتحول الآن إلى أزمة على النمط الفيتنامي. والسؤال الآن هو ما الذي يمكن لإدارة الرئيس بوش أن تفعله لكي لا تورط نفسها بصورة أكبر في هذه الرمال المتحركة بصحراء العراق؟
فاستمرار السياسة الحالية التي تقوم على أساس محاولة إدارة الأزمة العراقية بصورة أحادية لا ينطوي على أي فرصة للنجاح وذلك لسببين:
الأول استمرار تزايد عدد الخسائر في صفوف الأمريكيين. فقد قتل أكثر من 59 جندياً أمريكياً في هجمات عراقية منذ إعلان الرئيس الأمريكي جورج بوش انتهاء العمليات العسكرية الكبرى في العراق في الأول من مايو الماضي. كما قتل 42 جندياً في حوداث غير قتالية بالعراق منذ ذلك التاريخ. وقد ارتبط الكثير من هذه الحوادث بعوامل المناخ وانعدام الأمن.
السبب الثاني هو التكلفة الرهيبة لبقاء القوات الأمريكية في العراق مع الحاجة إلى استمرار هذا التواجد لفترة طويلة.
وقد كتب المحلل العسكري في معهد بروكنجز الأمريكي مايكل أوهانلون أنه حتى إذا تمكنت واشنطن من إقناع دول حليفة أخرى بتوفير قوة تتراوح بين 20 ألف و30 ألف جندي لمساعدتها في العراق إلى جانب القوات البريطانية الموجودة بالفعل هناك فإن الولايات المتحدة ستظل في حاجة إلى الاحتفاظ بما يتراوح بين 125 ألف و150 ألف جندي هناك لمدة عام أو أكثر.
وفي الوقت نفسه فإن هناك ما يتراوح بين خمسين وخمسة وسبعين ألف جندي أمريكي في المناطق المحيطة بالعراق حتى عام 2005 أو 2006.
ومن الواضح أن مثل هذه التقديرات محافظة تماما. ومع ذلك فإن استمرار نشر كل هذه القوات الأمريكية في العراق الذي يبعد عن الولايات المتحدة آلاف الأميال سوف يكلف دافعي الضرائب الأمريكيين نفقات باهظة. وربما يقول البعض أنه على العراقيين أن يدفعوا تكاليف قوات الاحتلال من عائدات بيع النفط العراقي في المستقبل.
ولكن هذا حلم غير واقعي، فصناعة البترول العراقية تحتاج إلى استثمارات ضخمة من أجل العودة إلى تحقيق أرباح كما كانت قبل الحرب. كما أنه لن يوافق أي طرف بما في ذلك العراقيون أنفسهم على السماح للولايات المتحدة الأمريكية بامتصاص عائدات النفط بمجرد أن يبدأ هذا البترول في التدفق.
بالنسبة لي فإن الدليل الحاسم الذي يؤكد أن سياسة واشنطن الحالية لن تنجح في العراق جاء من بيت بسيط في مدينة النجف جنوب العراق. ففي الثلاثين من يونيو الماضي أصدر آية الله علي السيستاني فتوى تقول أن العراقيين يحتاجون إلى إجراء انتخابات قومية لاختيار المجلس الحاكم المؤقت للبلاد، وبعد ذلك يجري تصويت على أي ترتيبات دستورية دائمة. وتحظى هذه الفتوى بأهمية كبيرة. فأية الله السيستاني يمثل أهم زعامة روحية للشيعة العراقيين الذين يمثلون أكثر من ستين في المائة من سكان العراق. وقد ظل هذا الرجل صاحب المكانة المرموقة حتى الثلاثين من يونيو الماضي متردداً في التورط في العمل السياسي بالعراق بعد سقوط صدام حسين. ولكن يجب الآن الاستماع لهذا الرجل باهتمام كبير. ففي وقت الغموض عاد الكثير من العراقيين بمن فيهم العلمانيون إلى قيادتهم الدينية يستمدون منهم النصح والتوجيه. وهكذا فإن السيد السيستاني ألقى القفاز في وجه الحاكم الأمريكي للعراق بول بريمر. ومنذ البداية أجل السيد بريمر تشكيل أي مجلس استشاري عراقي، ثم قال بعد ذلك أنه عند تشكيل مثل هذا المجلس فإنه هو الذي سيقوم بتعيينه. ويمكن أن نتوقع قيام السيستاني وغيره من زعماء الشيعة العراقيين بلعب دور سياسي غير رسمي مؤثر.
ولا يمكن تجاهل دعوة هؤلاء الزعماء إلى إجراء انتخابات على الرغم من أن هذه الانتخابات قد تحتاج عدة أسابيع وتتطلب أن تكون الأوضاع في العراق أكثر هدوءاً مما هي عليه الآن. كما يمكن أن يعمل زعماء الشيعة على إقامة تحالفات مع غير الشيعة في العراق كما يفعل نظراؤهم في لبنان.
وفي الوقت نفسه فإن أغلبية الشيعة العراقيين لا يشاركون حاليا في المواجهات المسلحة مع القوات الأمريكية والبريطانية وفضلوا الانتظار ومتابعة المواجهات الدامية بين السنة وقوات الاحتلال حول العاصمة العراقية بغداد.
ولكن كيف يمكن أن يؤدي نقل إدارة العراق إلى الأمم المتحدة إلى تحسن الموقف على الأرض؟
أي إدارة تابعة للأمم المتحدة سوف تتمتع بقدر من الشرعية العالمية التي يفتقدها الوجود الأمريكي تماما.
كما أن الأمم المتحدة تستطيع حشد قوات دولية لحفظ السلام وغيرها من الإمكانيات اللازمة لتحقيق السلام من مختلف أنحاء العالم.
كما أن مثل هذه الإدارة سوف تتمتع بقدر من الشرعية لدى العراقيين أنفسهم لا تتمتع به الإدارة الأمريكية.
وهنا يجب الإشارة إلى أن قوات حلف الأطلنطي التي دعا عضو مجلس الشيوخ الأمريكي جوزيف ليبرمان إلى الاستعانة بها لن تتمتع بشرعية أكبر من الشرعية الأمريكية في دولة غير أوروبية مثل العراق.
وفي نفس الوقت فإن وزير الدفاع الأمريكي دونالد رامسفيلد ألحق خسائر كبيرة بالعلاقات الأمريكية وحلف شمال الأطلنطي بسبب حديثه غير المسئول عن «أوروبا القديمة» في أوائل العام الحالي.
إذن على الإدارة الأمريكية وقبل أن يصبح هذا المستنقع العراقي أكثر صعوبة وأشد تكلفة بالنسبة للأمريكيين عليها أن تنظر للخلف قليلاً لترى كيف سارت بقدميها إلى هذه الفوضى. فمع الحماس الذي سيطر على وزير الدفاع رامسفيلد ونائب الرئيس الأمريكي ديك تشيني من أجل غزو العراق تجاهلت هذه الإدارة الكثير من الخيارات التي كانت متاحة للتعامل مع الأزمة العراقية، ثم جاء ما يمكن أن نسميه «مبدأ رامسفيلد» الذي كان يركز على استخدام قوة خفيفة وسريعة لإنجاز الغزو. وربما تكون هذه القوة الخفيفة قد نجحت في تحقيق انتصار عسكري كاسح لكنها فشلت في الحفاظ على السلام بعد الحرب.
والواقع أن هناك العديد من الدروس التي يمكن أن نتعلمها من المأزق الأمريكي في العراق. ولكن المهم الآن هو التركيز على وقف نزيف الدم الأمريكي والموارد الأمريكية في العراق مع محاولة تحقيق شيء إيجابي للعراقيين .
ولتحقيق هذا الهدف المزدوج فإن الأمم المتحدة هي الوحيدة التي يمكن اللجوء إليها.
( * ) خبيرة في الشئون الدولية خدمة
كريستيان ساينس مونيتور» - خاص ب «الجزيرة»
|