السياسوية أو تسييس النشاطات الحضارية وتضخيم الدور السياسي بمعناه الضيق هي إحدى الحالات السلبية التي يمكن تلمسها في المجتمعات العربية.
ففي مختلف القضايا العربية وما يتخللها من أزمات تميل غالبية المثقفين وعموم الشعوب العربية إلى اعتبار العامل السياسي هو المحرك الرئيس للأزمات وحلِّها.
فظواهر عامة كالتخلف والفقر والتطرف، وأخرى كسوء المناهج التربوية وانتشار المخدرات، بل وحتى ظواهر مثل تلوث البيئة وتخلف السياحة وحوادث الطرق تلقي بكامل تبعاتها على الجانب السياسي أو ربما المؤامرة!!
السياسوية هي في تقديري رؤية شرقية قديمة لها مسوغاتها آنذاك، حين كانت مؤسسة الحكم أو الزعيم الفرد حَكَماً مطلقاً يحمل مفاتيح الحلول والأزمات. ورغم وجاهة هذه النظرة القروسطية للأحداث، إلا أنها - وحتى فيما يسمى العالم الثالث - لا تتماشى تماماً مع واقع حال الأنظمة الحديثة بكل تعقيداتها الحضارية في بناء مؤسسات المجتمع/الأمة: الحكومة، الاقتصاد، الثقافة والتعليم، الإعلام، الفنون..الخ.
صحيح أن هناك أنظمة سياسية تدخلت بكل صغيرة وتحصي الأنفاس على شعوبها، كنظام تشاوشسكو في رومانيا ونظام صدام في العراق إلا أنها تظل استثناءات لا تعمر طويلا.
الحل لأي علَّة يتم أولاً عبر تشخيصها الدقيق.. أي تحديد مسبباتها الفعلية.. فمرض كصفار العين قد لا يكون مسببه في العين بل ربما علة في الكبد مع أسباب أخرى متداخلة. وفي أزماتنا يتم التشخيص غالباً عبر الظاهري، لأنه الأوضح للعيان والأسهل للتحليل ومن ثم الأكثر تأثيراً في انفعالات الرأي العام.. والظاهري هنا هو الصخب السياسي وشعاراته الانفعالية.. لأن ضجيجه العاطفي يظهر للعيان بوضوح، على عكس العمل الاجتماعي أو الثقافي الذي يظهر تأثيرهما بعد وقت مع قليل من الصخب.. أو البحث العلمي الذي يتم دون صخب ويظهر أثره بعد مرحلة زمنية قد تطول على الملاحظ السريع. وفي لعبة العاطفة يبدو النظام السياسي و/أو تآمر الخصم الخارجي - الأمريكي هذه الأيام - ببساطة هما المسبب لأغلب الأزمات.. وعندما يتجاوز هذا النمط التحليلي السياسةَ الضيقةَ لا يبتعد كثيراً ويظل يتمرغ في مستنقع الطرح الفكري السياسي بقيوده الإيديولوجية.. فكل فصيل يرى في منهجه الفكري السياسي الحل الأوحد لمختلف أزمات المجتمع.. وببساطة حادة تصاغ الحلول عبر إزالة النظام أو تغيير المنهج الفكري السياسي بينما تنمو المسببات الحقيقية للمرض في المجتمع دون تشخيص مناسب.. كما حصل لكثير من الأنظمة العربية التي أزالت نظمها وظلت معاناتها تتفاقم..
في حالة التخلف التي نعاني منها في مجتمعاتنا العربية هل ننتظر حلاً تعجيزياً من قيادة سياسية تنهيه بقرار سحري؟ أم أنها مهمة مركبة تدخل فيها كل مؤسسات وأفراد المجتمع؟ في ظاهرة التطرف بمجتمعاتنا العربية، هل يمكن الركون إلى أن أسبابها سياسية فقط وأن المجتمع لا علاقة له، وأن أنظمة حكم دعمتها لأغراض تخصها ومن ثم عليها هي وحدها حلَّها؟ ألا نبحث عن التطرف أيضاً في حضارتنا وقناعاتنا وسلوكياتنا وطروحات مفكرينا؟ في مسألة أزمة المناهج التربوية هل يمكن القول انها تنتظر قراراً سياسياً يُعلن ثم تنتهي الأزمة؟ ألا نسأل عن الدور التربوي التنويري للمفكرين والتربويين والآباء والأمهات..؟ ما نفع قرار تربوي تقره قيادة سياسية دون قناعة أو تفاعل من جهات التنفيذ؟ وأخيراً، هل الإصلاح الذي تطرحه كثير من القيادات السياسية العربية هو مهمة هذه القيادات فقط أم مهمة الجميع.. كل حسب قدرته؟ يظن البعض أن الإصلاح مصطلح معلق في الهواء يجلبه الحاكم متى اقتنع وامتلك الإرادة لإقراره.. ولكن، هل يمكن أن ينجح الإصلاح دون قناعة تفعيلية من الأغلبية خاصة الفئات النخبوية، وبأن عليها أن تدعو للإصلاح وتمارسه سلوكياً وتنظيمياً وفكرياً في المنزل والمدرسة والعمل والمنتديات والعلاقات الاجتماعية وطريقة التفكير..الخ.
في تقديري أن أزمة التخلف في المجتمعات العربية هي جوهرياً أزمة بنيوية داخلية، وليست لعبة سياسية أو مؤامرات خارجية رغم أن لها دوراً في ذلك.. فالأعداء لم يتوانوا برهة عبر التاريخ في إفشال المشاريع الناجحة لخصومهم إذا استطاعوا إلى ذلك سبيلا.. فلا يُفترض بالخصم أن يكون ملاكاً أو نبيلا.. فاليابان وكوريا وماليزيا نجحت في التطور رغم هذا العامل السياسي الخارجي الذي يضعه البعض شماعة لأزماتنا.
وهي ليست أزمة أنظمة سياسية فقط.. رغم أن الأنظمة تدخل كجزء من الأزمة وحلِّها ولكن الحكومات جزء لا يتجزأ من داخل هذه المجتمعات وليس من خارجها..
جوهر الأزمة هو في افتقار مجتمعاتنا العربية لأنماط حضارية (سلوكية ومعيشية)، وفي ذلك ينبغي البحث والنقاش.. مثل التنظيم بكل مستوياته الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، التي بدورها يلزمها شبكة من الهيئات والجمعيات التي تُسيِّر دفة المجتمع، توظف الطاقات وتوحِّد الجهود في محلها وتراقب النشاطات.. وتنظيم مؤسسات المجتمع المدني التي تحتضن الطاقات المبدعة وتدافع عن الحقوق وتشارك في الحياة العامة. ومثل الاحتراف من عمال مهرة وفنيين محترفين، وموظفين ذوي كفاءة اختصاصية ، ومستشارين ضالعين.. ومثل حرية الرأي والتسامح التي تبدأ من مستوى القاعدة.. فلدينا، غالباً، الأب مستبد برأيه في المنزل، والمدرس طاغية في الفصل.. وعلى الابن والتلميذ تنفيذ الأوامر دون مناقشة أو اقتناع أو إعمال الفكر. هنا تُبنى اللبنة الأولى لضيق الأفق والتعصب، وهذه اللبنة قد يستعصي اقتلاعها فيما بعد. سيكون من اليسير على الاستبداد أن ينمو، وسيغدو من السهل إقصاء الآخر وتثبيط الملَكات والمواهب.. وسيكون من العسير الاعتراف بالأخطاء أو اكتشافها، ناهيك عن استشرافها وإبداع الحلول.. هنا ينمو: الذكوري ضد المرأة، المدير المركزي الجلف، المفكر المتعنت، الداعية المتطرف، الصديق الأناني، الدكتاتور..الخ
إحالة أزماتنا العربية إلى الملف السياسي لن تفلح في التشخيص، ثمة ملفات أخرى متداخلة تحتاج للفتح منها القانوني والاقتصادي والثقافي والتربوي والتاريخي..إلخ. هي أزمة حضارية متكاملة تنبني على القاعدة الاجتماعية الاقتصادية من سلوكيات وأنماط معيشة وعلاقات مصلحية.. وهي في نهاية المطاف من نتاج أيدينا وليست من صنع القيادة السياسية أو الامبريالية.. أزماتنا هي نحن!!
|