هناك ثلاثة تعليقات ان صح التعبير أريد أن أطرحها بصوت مقروء فيما يخص التحديات الشرسة التي نواجهها على المستويين الخارجي والداخلي وعلى وجه الدقة ما يتعلق بتقرير الكونغرس الأمريكي الأخير الذي لوح فيه بتهمة خطيرة لحكومة المملكة العربية السعودية وهي القول بضلوعها «الرسمي» في تفجيرات سبتمبر دونما وجه حق أو ادلة قانونية مع اخفاء متعمد لجزء التقرير الخاص بهذه التهم الجزاف.
التعليق الأول، أوجهه للادارة الأمريكية التي لا أشك ان لديها جهازها المعلوماتي الخاص على الأقل في سفارتها لدينا الذي يهتم بما يكتب في صحفنا وما يقال في أوساطنا الشعبية بشأن صورتها في بلادنا وتصورنا عن العلاقة بها خاصة في مثل هذا الوقت العصيب لها ولنا، وفي هذا التعليق اقول لمن يهمه الأمر في الادارة الأمريكية الرأي التالي: ان أمريكا وقد ابلغت بواسطة الدبلوماسية السعودية الرأي الرسمي في مسألة إخفاء الجزء المتعلق باتهام المملكة بمحاباة الارهاب أو تمويله من تقرير الكونغرس والمطلب السعودي الرسمي الصريح بالكشف عن تلك الجزئية لمواجهتها قانونياً وبالأدلة فانه ربما يهمها أيضاً وهي تحمل على العالم سياسياً وعسكرياً باسم اقرار حق الشعوب في الحرية والمشاركة ان تطلع على رأي الشعب السعودي من هذه التهم الموجهة للجهاز الرسمي في بلادهم، ان شرائح واسعة من أغلبية الشعب السعودي وليس شريحته المثقفة وحسب تقلق من مثل هذه التهم وتريد الاحتكام فيها على عجل وبشكل صريح للقانون، وذلك ليس من باب ثقتهم في سياسة حكومتهم وحسب وتجربتهم التاريخية الطويلة مع هذه الحكومة في انحيازها للسلم في علاقاتها الخارجية ولاشاعة الأمن داخلياً، وانما أيضاً لان الشعب السعودي لا يريد لأمريكا ان تفتقد الحد الأدنى من المصداقية حين تحدثه عن قيم العدالة القانونية والحرية والديمقراطية بينما لا تقيم وزنا لرأيه ورأي حكومته فيما يجري ولا تمكنه وحكومته من الحق القانوني الذي ينظم العلاقات الدولية بوجود مصالح مشتركة مثل المصالح القائمة بين أمريكا والسعودية وبوجود ظرف تاريخي حرج مثل الظرف الراهن، ان الشعب السعودي مؤيداً من قيادته ينشد الاصلاح الداخلي لكثير من جوانب حياته السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وهو يريد علاقة مشاركة في تحمل مسؤولياته كمواطن مع حكومته ويرى بوارق مشجعة في هذا الاتجاه سواء من أصحاب القرار أو من تقدم المواطنين ببعض المقترحات الاصلاحية إلا أنه يريد أن يتم ذلك بالطرق السلمية وان تكون الاصلاحات نابعة من قاعدته الشعبية بمختلف قواها الاجتماعية وبقناعة من القيادة ولا تأتي عن طريق الضغوط أو الابتزاز، ان الشعب السعودي يرى ان سياسة الضغط الخارجية لا تخدم ورقة الاصلاح التي تجد كل تأييد من قيادتنا بل قد تعرقله لأنها تؤدي إلى حالة من الارباك الذي قد يؤدي إلى التخبط والتردد بين الاحجام والأقدام، فالأوطان الحرة المستقلة والمملكة أحد هذه الاوطان هي التي تستطيع ان تأخذ بزمام الاصلاح والمشاركة الشعبية وليس العكس.
التعليق الثاني، أوجهه لأنفسنا:
لا أملك في هذا الصيف الساخن الذي نمر فيه بواحدة من اصعب تحديات تجاربنا السياسية على صعيد العلاقات الدولية منذ تأسيس الملك عبدالعزيز - رحمه الله - لكيان المملكة العربية السعودية الوطني فيما يخص السياسة الخارجية للمملكة وما يتهدد الأمن والاستقرار الداخلي الا ان احسد الكتاب بما فيهم نفسي على قدرتنا على الاستمرار في الكتابة بنفس الشروط التي تحتاج صبر ايوب على الرقابة الذاتية التي نمارسها ضد ما نكتب وعلى الرقابة التي يسنها علينا رؤساء التحرير دون ان نسأل عن سقف تلك السنن أو أسانيدها القانونية لو وجدت، هذا في الوقت الذي نحتاج فيه حقاً إلى التفكير بصوت مسموع، مشترك ومتعدد لنرى كيف نواجه هذه الغمة التي لا يبدو انها يمكن ان تكون غيمة صيف وتتبدد فيما لو استمرت التهديدات الأمريكية اذا لم نقل الابتزازات وما لم يكن لدينا من الفعل الداخلي وليس مجرد ردة الفعل ما نواجه به هذه الاتهامات والتهديدات الظالمة.
ولا أملك الا ان اقارن بكثير من التقدير الذي لا يخلو من الغيرة بين شجاعة المملكة في موقفها من تقرير الكونجرس واصرارها على الاحتكام للحجج القانونية للمطالبة بالكشف عن المستور فيه لتتمكن من معرفة طبيعة التهم الموجهة اليها فيه ولتقوم بمواجهتها قانونياً أيضاً وبين مواقفنا ككتاب، تلك المواقف التي يكتفي فيها الواحد منا بكتابة نصف أو ربع أو شبه الكلام، هذا اذا لم يلجأ مثل عدد لا يستهان به من كتاب زوايا الصحف وافتتاحياتها إلى استخدام تلك التعبيرات المكررة بمناسبة وبدون مناسبة والتي هي في الغالب تعبيرات لا تذود عن وطن ولا تنم عن انتماء والحكومة في غنى عنها، فمثل هذه الكليشيهات الكلامية لم تعد تعني للمواطن والمسؤول معاً إلا الرغبة الشخصية في «الترزز» على حساب طرح المواضيع الجادة والمشاركة بالرأي التي تخدم المملكة.
فلا أدري كيف يمكن لكاتب أن يكتب من منتجعه في هاواي مثلاً عن فضائل السياحة الداخلية دون أن يستحي من مواطنيه وحكومته لا لأنه يسيح في الخارج فهذا حقه اذا اقتدر ولكن لأنه يكتب عن واقع لم يشارك في تجربته وبالتالي فهو لا يصدق السائل أو المسؤول فيما يكتب، ولا أدري كيف يمكن لذوي الدخل المحدود القادمين من الشمال أو الجنوب أن يصدقوا ان «جدة غير والذهب خير» وهم يسمعون تلك الدعاية التلفزيونية التي تشبه في ايقاعها أغاني «البصارات» و«قارئات الودع» حين يقلن «ارمي بياضك يا شبه.. قدامك عمه ووراك اوبه إلخ» في الأفلام المصرية بينما يكتشفون بعد تجشم عناء الرحلة البرية ان كل ما جمعوه للاجازة لا يكفي «عرمة» العيال تكاليف «عشوة» على الكورنيش وثلاثة أيام في شقة مفروشة متواضعة ولا أدري كيف يمكن للعديد من جهات الخدمات العامة للمواطنين من مواعيد المستشفيات إلى احقية الضمان الاجتماعي ان تفتخر بمنجزات لا تنجز الا بالكاد وتهميش المواطن وهشه بعصا الاستخفاف به، ولا ادري كيف لمواطن ان يتباهى بحب الوطن أو يدعيه وهو لا يعرف من حقوق المواطنة وواجباتها الا «التطنيش» للواجبات والتهرب منها مفضلاً أسلوب التحايل في الحصول على حقه بدل اعطاء الوطن مستحقاته عليه.
لا أدري كيف يمكن للشباب أن يتعلموا مسؤولية المشاركة الوطنية في هذه الأزمة الخارجية والداخلية اذا كان ينظر إلى ابسط سلوكهم في السوق والشارع وربما في البيت بريبة وشك، دون ان يتلقوا لا في المدارس ولا الجامعات ولا في نشاطات صيفية ولا سواها أي دربة على التحاور والحديث لفهم ما يجري ليكون لهما موقف وطني منه لا بمجرد تعصب الشاب/ الشابة لسعوديتهما وربما بشكل شوفاني ولكن من موقع المسؤولية في تمثيل هذه الهوية في بعدها العربي الاسلامي والالتزام قولاً وعملاً بأخلاقيات هذا الانتماء، لا أعني بذلك ضمهم إلى معسكرات «وعظية» وانما اشراكهم في الحوار الوطني الذي بدأنا نرى بوادره ونرجو ان يتسع خاصة بعد موافقة خادم الحرمين الشريفين - حفظه الله - على تأسيس مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني، فهذا هو الدرع الحقيقي لحماية مكتسبات وحدتنا الوطنية التي حين بادر لها الملك عبدالعزيز كان هو نفسه في عمر هؤلاء الشباب الذين لا يجري بما فيه الكفاية ضمهم للمشاركة بإبداء الرأي في مواجهة التحديات الوطنية.
التعليق الثالث، هو تساؤل لا أستطيع ان ابتلعه، اسوقه لأولئك الذين يكتبون بشكل تفجعي على موقف أمريكا منا آسين على تنكر أمريكا للعلاقة التاريخية التي تربطها بالمملكة لما يزيد على ستين عاماً، هذا التساؤل يقول: لماذا تنقض أمريكا اليوم على علاقتها بالسعودية في الوقت الذي كانت السعودية تدخل أحياناً في خصومات سياسية بسبب علاقتها المتوازنة مع أمريكا؟ لا نأتي بجديد اذا استشهدنا في محاولة الاجابة على هذا السؤال بالمقولة الواقعية هذه الأيام والقائلة: «في السياسة هناك مصالح دائمة وأصدقاء أو حلفاء متغيرون» ولكن وارن باس في كتابه المعنون «نساند أي صديق» الصادر هذا العام عن مطابع جامعة اكسفورد يأتي بشيء جديد حين يستشهد بعاملين يحددان كيفية دوران التحالفات في فلك المصالح، العامل الأول يتعلق بطبيعة علاقة دولة العدو الصهيوني اسرائيل بأمريكا منذ الستينات وعلى وجه التحديد في الفترة الرئاسية لجون كنيدي والتي تتوجها اليوم سياسة اليمين المتطرف في الادارة الأمريكية بمحاولة وضع «خارطة الطريق» لاعادة تراتب وليس فقط ترتيب مواقع دول المنطقة بما يضمن التفوق الاسرائيلي واعطاءها الموقع الأول في العلاقة مع أمريكا والائتمان عليها، العامل الثاني حسب وارن باس يتمثل في موقف المحافظين اليمنيين الجدد داخل الادارة الأمريكية وخارجها في مراكز القوى المتعددة من مراكز البحوث إلى الدوائر السياسية المؤثرة في صناعة القرار السياسي الأمريكي، هذا الموقف الذي يقوم على انكار العلاقة بين السياسة الأمريكية الجائرة في المنطقة وانحيازها ضد الشعب العربي في فلسطين ومواقع اخرى لصالح اسرائيل وسواها من قوى القمع وبين استشراء ظاهرة العنف الموجهة ضدها كتفجيرات سبتمبر، هذا مقابل تمسكها بموقف استشراقي لا يرى علة لتوجه ذلك العنف أو الارهاب اليها بالذات من بين دول العالم قاطبة الا علة وجود مجتمعات مسلمة بانظمة تعليمية لا تروق لهم وأنظمة سياسية معادية لقيم الديمقراطية وفق المفهوم والمواصفات العربية بما يعفيها/ أي أمريكا من مواجهة مسؤوليتها فيما حدث لها، ومن هنا يكون الصديق ليس هو الصديق التاريخي بل الصديق المستقبلي حسب اتجاه رياح المصالح الأمريكية ومستجداتها.
هذا ولله الأمر من قبل ومن بعد.
|