لم تعد الشراكة العربية مع الغرب سواء مع أمريكا أو مع أوروبا، مجرد خيار ضمن خيارات بقدر ما هي اليوم حتم لا مفر منه، وشرط ضرورة من أجل البقاء ناهيك عن النمو والتقدم، ويأتي على رأس براهين هذه الحقيقة تجارب اليابان وكوريا الجنوبية وكذلك بقية النمور الآسيوية، التي بلغت بسبب هذه الشراكة من الرقي الاقتصادي والاجتماعي والسياسي شأواً حضارياً متقدِّماً بكلِّ المقاييس، وفي المقابل تأخَّرت الدول التي بقيت خارج هذه الشراكة، ولعل إذعان الصين مؤخراً لشروط «منظمة التجارة العالمية»، التي هي في نهاية المطاف منظمة «غربية»، يثبت هذه الحقيقة التي لا يمكن تجاوزها أو التعالي عليها بحال من الأحوال.
غير أن التاريخ قد أثبت - أيضاً - أن من أهم متطلبات تحقيق هذه الشراكة أن يكون ثمة استعداد ذهني ونفسي وثقافي بين الشعوب المصدِّرة للحضارة وبين الشعوب المتلقية لها، من أجل أن تؤدي أهدافها الحضارية المتوقعة منها. وفي تقديري أن ذلك على وجه التحديد هو ما يمكن اعتباره «العقبة» الكأداء التي تقف أمامنا، لتحقيق مثل هذه الغايات، ناهيك عن تفعيلها، والارتقاء بها إلى مستوى تحقيق الأهداف التنموية المعقودة عليها.
وهنا يأتي دور «المثقف الموضوعي»، فالمثقف هو الذي يقرأ مجتمعه قراءة عميقة ومتفحصة وموضوعية، ويحاول أن يُشخص بعقلانية أسباب الإخفاق، وعوائق التنمية، وبواعث التحضر، ثم يشرعُ في نقد ما يحتاج إلى النقد، ويطرح في المقابل كل ما من شأنه الأخذ بيد المجتمع إلى المدنية والتحضر، بجرأة وإصرار ومثابرة وثبات، لا يهمه من خذله، ولا يعنيه من وقف أمامه، طالما أنه «مقتنع» بما يقول، ومؤمن بما يذهب إليه.
غير أن مثقفينا - للأسف الشديد - هم في الغالب الأعم سبب البلاء ومكمن الداء. فهم يقفون «خلف» الجماهير أو على الأقل في معيَّتها، لا «أمامها»، يتبعونها أو معها حتى وإن اتجهت إلى «التهلكة»، ينظرون لها خارج إطار الزمان والمكان، وعندما يتحدَّثون عن «التخلُّف» يلتمسون له المبررات، ويلقون بأسبابه على «الآخر» وليس على واقعنا المرير، الذي أنتج ثقافة ترى - مثلاً - في الصراع مع الغرب واستعدائه وتعميق الهوَّة بيننا وبينه رسالة يرتفعون بها إلى مستوى «الثوابت» الوطنية أو القومية التي لا يجرؤ أحد على نقدها أو حتى التعرض لها بالتحليل، هذا ما كان يمارسه القوميون في السابق، وهذا ما يمارسه الكثير من الإسلاميين اليوم، وما أشبه الليلة بالبارحة.
نحنُ - أيها السادة - مغرمون بعقلية «تفكير القطيع»، فكل من انضم إلى القطيع في أفكاره واتجاهه، معه إينما حل وارتحل، فهو المثقف الحقيقي، بل والإنسان السوي، أما من يحاول أن يخرج عن اتجاه القطيع ولو قيد أنملة، وأن يتميز اعتبرنا رأيه بمثابة «الشذوذ الذي يؤكِّد» القاعدة، أما القاعدة فهي اتجاه القطيع!.. ولو قرأنا التاريخ قراءة متفحصة، لوجدنا إن كل آراء العباقرة التي غيَّرت مجرى التاريخ، كانت في بدايتها «آراء شاذة» أو على الأقل «مختلفة»، ولم تحظ بأية جماهيرية في زمانها، لكنها في نهاية المطاف حققت المعجزات، هكذا يقول تاريخ الحضارات.. لو كان العرب يقرؤون ويفكرون!!.
|