زادت حدة الحوار عن الإصلاح منذ توالي الأحداث في نيويورك وكابل وبغداد، فالكل صار ينتظر صافرة البدء في مشوار الطريق الطويل، ويزيد قضية الإصلاح العربية تعقيداً التردد الواضح في توقيت لحظة انطلاقها،.. ولكن من أجل فهم شروط المعادلة في قضية الإصلاح، يجب تأمل الموقف منه، فهناك من يعتقد ان ممانعة الإصلاح جذورها شعبية، وليست حكومية.. ومما يشتت أحياناً مفاهيم الإصلاح الحقيقي عن مقاصده، أن البعض يتحدث عنها فقط من خلال زاوية اجتماعية، فالإصلاح عندهم قد يعني «قيادة المرأة للسيارة»، أو مزيداً من الحريات الاجتماعية، وهذا اختزال سطحي لمفاهيم الإصلاح، فإن كانت الحرية هي الأصل الذي يستندون إليه، فيجب إذن إعطاء الناس حريتهم في اختيار ما يرونه الصحيح، وليس من العدل ان تفرض على المجتمع مفاهيم تغيير قد تكون ضد ارادته واختياراته، والعكس أيضاً صحيح، فليس من المقبول ان يجبر إنسان على اعتناق مفاهيم لا يؤمن بها..
وهناك أيضاً من يطرح إشكالية الوطن والأمة، فالجماهير حسب وجهة نظره لم تحدد موقفها تجاه مفهوم «الوطنية»، فذهنيتها لا تزال منهكة بنتائج الحرب الضارية التي دارت رحاها بين رابط الإسلام وأواصر العروبة في العقدين الماضيين، فالعروبة أو القومية عند بعض الدعاة وثنية تخالف مرجعيتها الإسلام، ومخالفة صريحة لحديث الرسول عليه الصلاة والسلام الذي يقول: «لا فضل لعربي على عجمي ولا لأبيض على أسود ولا لأسود على أبيض إلا بالتقوى» وقوله «دعوها فإنها نتنة» بعد ما سمّاها جاهلية، فالقومية وثنية لا يصح الالتفاف حولها، وهي فكرة أوروبية المنشأ، وقام على نقلها ونشرها في المنطقة العربية «النصارى»، فالفكرة حسب رؤيتهم أوروبية والتنفيذ صليبي، والأهداف التي من أجلها ظهرت دعوى القومية كانت: طرد تركيا دولة الخلافة من المنطقة!، وتفريغ المنطقة والعالم الإسلامي من دينه بإحلال العروبة مكان الدين..،
وجزء من الإشكالية الجديدة يقع في إطار محور الخلاف السابق، فبعد التخلي عن الخطاب السياسي الإسلامي الأممي، وظهور دعوات الوطنية،.. عاد مصطلح الوثنية يشهر ضد المحور السياسي الجديد، الذي يتذبذب بين واقع الوطنية وقدسية الأمة، فالاطروحات الدينية التي تصدر ضد مرجعية الوطن، وترجع فكرة «الوطنية» إلى نظرية المؤامرات الغربية ضد الإسلام تجد لها صدى عند بعض الجماهير، وهي ترفض مبدأ التميز على أساس الهوية الوطنية، وتجعل من معايير التقوى أو العقيدة القاعدة التي تميز بين الناس على مستويي الأمة والوطن، و.. وهي بالفعل قضية شائكة، فالتقوى غاية إسلامية، لكن يجب ألا تكون معياراً «وطنياً»، فهي أسمى من ان تخضع لقياس بشري، وتستدعي إعادة تقييم لمرجعيتها، ويجب ان يحسم ذلك من خلال برامج الإصلاح، فالقرار السياسي ضروري لفك الاشتباك بين الوطنية والأممية، ولن يحدث هذا إلا من خلال صياغة جديدة للخطاب السياسي والديني، وإشعار المواطنين ان عليهم واجبات، وان لهم «حقوقاً مصانة» ومشاركة مشروعة، وذلك من خلال أصول واضحة و«مقننة» في دستور، ويجب الا يعني هذا على الإطلاق ان نلغي روابط الإسلام والعروبة، ولكن يجب ان يأتي الوطن دائماً أولاً.. وإن لم يحدث ذلك، ستظل مرجعية الأمة تشكل ذهنية المواطن، مما قد يخلق لديه أولويات خارج حدود الوطن..
والقضية التي ربما تعد الأكثر غموضاً..، هي موقف الجماهير من قضية الإصلاح، وهل يوجد بالفعل ممانعة شعبية ضد عمليات الاصلاح بمفاهيمها الإدارية والسياسية؟.. هناك من يشير إليها إذا جد الحديث عن مشروع الإصلاح، وهنالك على طرف آخر من يجزم ان هذا غير صحيح، وانه يجب ألا تفسر طبيعة الصمت انها ممانعة، فهي قد تكون إحدى علامات هزيمة الإنسان العربي مع طبائع الاستبداد، فغياب حرية التعبير مثلاً، جعلت منه قنبلة زمنية موقوتة،.. والصمت الذي يسبق الانفجار أضحى طبعاً عربياً، ولا غرابة في ذلك، فهو لم يتعلم ان يعبر عن رأيه، أو يشارك بفعالية عبر الوسائل المتحضرة.. وهي بالمناسبة حالة يشترك فيها أيضاً بعض المثقفين والدعاة.. والاصلاح الحقيقي يجب ان يشارك فيه الجميع بفعالية وإصرار لا يتأثر سلبا بالفشل إذا حدث في بداية أو نهاية المشوار..
وقصة الصبي الذي شاهد أمام مرأى عينيه نجمة البحر تقذفها الأمواج الهائجة على شاطئ المحيط الكبير تحكي ذلك الجزء الغائب في معادلة الإصلاح العربية، فهذا الصبي قرر بكل عفوية وبعد ثوان من التأمل، أن يجري نحو نجمة البحر ويعيدها إلى المحيط قبل أن تموت، وكلما أعاد نجمة إلى البحر قذفت الأمواج بالعشرات منها، لكنه لم يكترث بذلك، وراح بجد ونشاط يقوم بدوره «الإنساني الإيجابي» نحو نجوم البحر.. وقد شقت مهمة الصبي المستحيلة على فيلسوف يتابع نشاطه فقال له: يا بني لماذا تعيد نجوم البحر إلى موطنها؟ ألا ترى ملايين نجوم البحر قد تناثرت على الشاطئ.. فقال الصبي: إنني أشعر بالسعادة لأنني أحاول ان أخدم الآخرين، ويكفيني فخراً انني أبذل الذي أستطيعه.. ورد الفيلسوف: ان نجمة البحر التي انقذتها قد تلفظها الأمواج من جديد، فتعود إلى الساحل وتموت. يا بني انظر إلى ملايين النجوم انك لم تصلح شيئاً.. انظر إلى الأمام.. انظر «بواقعية».. فأجابه الصبي: لقد شغلتني بجوارك هذا عن عملية الانقاذ فاتركني لأعمل وأجلس أنت في برجك العاجي وانظر إلى موت الملايين من نجوم البحر دون ان تحرك ساكنا، أما أنا فسعادتي بأن أبذل وسعي في انقاذ ما يمكن انقاذه..
واستمر الصبي في أداء مهمته الشاقة، يعيد نجوم البحر إلى المحيط، ويطرب بسماع صوت الأمواج دون إحباط، يواجهها تارة بالأمل اليافع وتارة أخرى بالعمل النافع غير عابئ بالفيلسوف الذي حاول ان يسبح في محيط الأفكار المجردة لكنه غارق في أمواج اليأس والقنوط.. والمتابع لما يجري على الساحة العربية، سيجد ان فلسفة الانسان العربي تختلف تماماً مع ما يؤمن به الصبي، فالمجتمع العربي في حالة مشابهة لموقف الفيلسوف من نجوم البحر التي يقذفها البحر لشاطئ الموت،.. يتلذذ بتأمل حالة البؤس التي يعيشها المجتمع، ويراهن على ساعة الانفجار، وإنسان الشارع العربي عموماً يتميز بالسلبية المفرطة، فهو لا يشارك ولا يعرف ماذا يريد، ولا يكتفي بذلك، ولكن يمارس استبداده الاجتماعي ضد من يحاول ان يشعل شمعة في الظلام..
والخروج من حالة البؤس العربي تتطلب ان يكون العمل والإيمان بأمل الإصلاح، هماً إنسانياً مشتركاً، لا يختص به صناع القرار فقط، فالإصرار على الإصلاح عبر وسائل العمل المتحضر، والقنوات المشروعة، هو الحل الأمثل، وإن كان السياسي هو الوحيد الذي يمتلك القرار الأهم.. حيث يتفق المحللون ان بداية الإصلاح الحقيقي تبدأ حيث القرار، أي بالسلطة السياسية...
ومن غير الجائز ان نأمل بأي إصلاح إذا لم تكن هناك طبقات إدارية تنفيذية قادرة على ضبط نفسها عن المخالفات ومقيدة نفسها بأحكام الشريعة والقوانين ومصممة على إجراء هذا الإصلاح، ونخب مثقفة لا تكتفي بلعب أدوار الفيلسوف الذي يعشق عادة التأمل، فعليها ان تنزل من أبراجها العالية إلى ميدان المشاركة في إصلاح الوعي الجماهيري، والإصرار على قذف الكرة دائماً إلى الأمام، وجماهير يعيش في داخلها إصرار «الصبي» الايجابي على المساهمة على قدر الاستطاعة، ولكن واعية باستراتيجية الوطن أولاً، ومتفائلة ومثابرة ومجتهدة في دفع عجلة الإصلاح من خلال الوسائل السلمية،.. ومدركة لأهمية حسم قضية تقاطع مصالح الوطن مع رسالة الأمة، وان تطور الوطن واستقراره سيجعله مثالاً يحتذى به في دوائر العروبة والإسلام..
|