عجباً للموت، ذلكم الحوض المورود والكأس المشروب، كل الطرق تؤدي إليه سريعها وبطيئها، برها وبحرها وجوها:
سبيل الموت غاية كل حي
فداعيه لأهل الأرض داعي
وأعجب منه ابن آدم كأنّه يستبطئه، فيغذ السير جاهداً صوبه، وهو يحسب أن في هذا خلاصه، وما يدري المسكين أنه يسرع بخطاه إلى ورود حياض المنايا:
نسير إلى الآجال في كل لحظة
وأيامنا تطوى وهنّ مراحلُ
ولم أر مثل الموت حقاً كأنه
إذا ما تخطته الأماني باطلُ
وأيدينا ما برحت معفرة بالتراب تهيله كل يوم على أصحاب وأحباب لو استطعنا لفديناهم دون الموت بالنفس والنفيس وبالطارف والتليد، ولكنه الموت لا يقبل الفداء، ولا يسمح بالإرجاء، حتى ولو كان المفتدى أو المرتجى إرجاؤه أحب الأحباب أبا أو أما، لأنها آجال مقدرة وأنفاس معدودة: {وّلّوً يٍؤّاخٌذٍ اللَّهٍ النَّاسّ بٌظٍلًمٌهٌم مَّا تّرّكّ عّلّيًهّا مٌن دّابَّةُ وّلّكٌن يٍؤّخٌَرٍهٍمً إلّى" أّجّلُ مٍَسّمَْى فّإذّا جّاءّ أّّجّلٍهٍمً لا يّسًتّأًخٌرٍونّ سّاعّةْ وّلا يّسًتّقًدٌمٍونّ} [النحل: 61].
الطريق إلى الموت:
قبل أيام قدمتْ من كنتُ أتمنى قدومها كل حين، وأرى في لقياها عيدي الحقيقي، ومن كانت طلعة محياها تزيل همومي، وتغمر قلبي بالسعادة والحبور، أجل لقد قدمت أمي إلينا في الرياض، ولكنها هذه المرة أتت وهي تعاني من انسداد في أحد شرايين قلبها الذي أضناه حنان الأمومة، جاءت أملا في إزالة تعبها اليسير في صدرها، ولاسيما قد علمت أن عمليات (القسطرة) أصبحت من أيسر الأمور الطبية، فأدخلت المستشفى تحوطها الدعوات مرفوعة إلى رب الأرباب أن يمن عليها باكتمال العافية، وكان لها ما أرادت ونحن مثلها، فأجرى لها الأطباء العملية، ونجحت بتوفيق الله، وقدم طبيبها وصفة الدواء اللازم لما بعد العملية، وخرجت والدتي من المستشفى بعافية، ولكن ليجري المقدور أجّلت صيدلية المستشفى إعطاء بعض الأدوية اللازمة ثلاثة أيام، لأنها لم تكن متوفرة حينذاك لديها!! وبعد ثلاثة أيام شعرت أمي بالأعراض الخفيفة نفسها التي كانت تعانيها، وكانت المفاجأة أن الشريان نفسه قد عاد إليه الانسداد، ولكن الأشد فجاءة أن ذلك - كما قال الطبيب نفسه - كان بسبب تأجيل أخذ أحد الأدوية، وهو الذي لم يكن متوفرا في صيدلية المستشفى، عند ذاك قرر الطبيب إجراء عملية قسطرة أخرى لها، ولكن وليجري أيضا ما قضاه الله وقدره، عمدوا قبل ذلك إلى إعطائها حقنة تستعمل عادة في إزالة انسدادات الشرايين أملا في الاستغناء عن إجراء العملية مرة أخرى، وحين ودّعت حبيبة القلب عند الساعة التاسعة مساء كانت تقول لي: إنها لم تعد تشعر إلا بوخز يسير في الظهر، وتركتُ غرفتها بعد أن ودعتها، وهي تلهج بحمد ربها تسبيحا وتهليلا، ولم أكن أدري أنه سيكون لهذا الوداع ما بعده، حيث عند الساعة الثانية بعد منتصف الليل إذا بالهاتف الجوال يرن ويلح في النداء، وتلك ساعة لا تطرق فيها الطير في أوكارها، فأراع قلبي وأفزعني، إذ رجحت أنه قد حدث مكروه، وتوقّع المصيبة أشد هولا من وقوعها، فنهضت من فراشي مذعورا، أسأل المولى جل جلاله اللطف في قضائه، وحين أبصرت على شاشة الجوال اسم (إبراهيم) أخي، وهو أبرّنا بأمه، وهو الذي أشهد له أنه ما مات من خلّف مثله، حينذاك أيقنت أنه قد حصل لأمي ما لا أتمنى سماعه، فغشيتني غشاوة، فاسترجعت، وقلت: (حسبنا الله ونعم الوكيل)، واستمعتُ إليه بما بقي من حواسي، وإذا به يقول: إن المستشفى اتصلوا به، وأخبروه أن والدتنا حصل نزيف داخلي في رأسها، وأنها تحتاج إلى عملية عاجلة لسحب الدم من الرأس، هببتُ مسرعاً إلى المستشفى، وظللتُ وإياه ساعات خمساً ننتظر نتيجة العملية، وساعات أخرى خمسا ننتظر إفاقتها، ولكن دون جدوى، فبعد فحوصات جديدة جاءنا الخبر الطبي اليقين، أنها أصيبت في الجزء الآخر من الرأس بنزيف أيضا، وأن جلطة دماغية أصابتها، وأن الاحتمال الراجح أنها لن تفيق، وأنها ستظل على أجهزة التنفس والتغذية، وتحت الرقابة الدقيقة حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا، اللهم لا راد لقضائك، و{-انا لله وانا اليه راجعون}، وحشرجت الدموع في حلقي، وتمنيتُ لو أنها سالت على الخدّ كي تخفف مما آلم قلبي، فذلك أهون على المرء من جسر الدموع الداخلية:
صبرت وكان الصبر خير مغبة
وهل جزع يجدي عليّ فأجزعُ
صبرت على ما لو تحمّل بعضه
جبالُ شرورى أصبحت تتصدّعُ
ملكت دموع العين ثمَّ رددتها
إلى ناظري فالعين في القلب تدمعُ
وعشتُ كما عاش إخوتي وأخواتي ما بين اليأس وبصيص الأمل الذي لا ينتظره غيري وغيرهم، عشنا سبعة عشر يوما، كنت أجاهد خلالها نفسي على الظفر بحلاوة الإيمان بقضاء الله وقدره، وبمدافعة وساوس الشيطان الذي ما يفتأ يذكرني بقول الشاعر:
إذا ما مات بعضُكَ فابكِ بعضاً
فإن البعضَ من بعضِ قريب
ليجذبني إلى اليأس والقنوط، وكنت طوال أوقات الزيارات المسموح بها لا أملك لأمي إلا الدعاء وقراءة القرآن الذي ما كانت لتفتر عن سماعه من خلال إذاعة القرآن الكريم، ولا أملّ من تقبيل رأسها وجبينها وخديها ويديها، ومن ثمَّ أخرج والحزن يغمر قلبي.
ومن عجائب أفكاري طوال الأيام العصيبة أنني في مرات غير قليلة تمنيت أن تكون أمي مقعدة، لقد كنت ألتفت يمينا وشمالا حول سريرها، فأرى مريضا ملازما لسريره لا يستطيع النزول عنه، وآخر بلغ به الإعياء أنه لا يتكلم إلا همساً، فأتمنى أن تعود أمّي ولو على مثل حالة هذا أو ذاك، أرأيتم قبلي إنسانا تمنى لأمّه مثل ما تمنيتُ؟ على رسلكم لا تعجلوا في ملامي؛ إنه من فرط حبي لأمي، لقد كان الشيطان يوسوس لي، فيقول لي: ما عليه أمك هو ما عناه أبو تمام في قوله:
ليس من مات فاستراح بميت
إنّما الميت ميتُ الأحياءِ
وكان يقول لي: (إن أمك لا حيةٌ فترجى، ولا ميتة فتنسى)، فأدحره راضيا بأن تبقى لي ولو على هذه الحالة، وكنت أقول في نفسي: (ما نزال بخير ما بقي جسدها بيننا)، وأجد في تقبيل يديها ورأسها لذة لم أتذوق مثلها من قبل، ولقد كان الناصحون ينصحونني بأن أسأل الله تعالى أن يحييها ما كانت الحياة خيرا لها، وأن يختار لها الأخرى ما كانت الأخرى خيرا لها، وإني لأقول الآن: والله الذي لا إله غيره إنني لم تقبل نفسي أن أدعو بهذا الدعاء المأثور إلا ظهر اليوم الذي فيه ماتت أمي رحمها الله، ولست أدري لماذا ارتاحت نفسي لذلك في ذاك اليوم؟.
وما أضعف ابن آدم مع جبروته ينتابه ضعف، فيقنع بالقليل: في أحد الأيام حركت أمي رجليها، فلا تسألوا عن الأفراح والتباشير، لقد طارت بالخبر الهواتف الجوالة قبل الركبان، واليوم أقول لمن يعتبر: كم منا من يحرّك كلّ أطرافه كيف شاء، وتعمل كلّ حواسه كما يريد، ويتقلّب في نعم الله آناء الليل والنهار، ومع ذلك لا يشعر بقيمتها!!! إنه بني آدم يتنعّم بمالا يدرك قدره، فمَنْ منا من إذا رفع يده تذكر أنها نعمة، فحمد الله عليها؟، وإذا فتح عينيه تذكر أنهما فضل من الله، فشكر الله عليهما ؟
*، وخشيت أن تجتمع علي مصيبتان: فقد أمي، وفقد الأجر، فالمصيبة واحدة، فإن كان فيها جزع فهي ثنتان: (إن صبرت جرى عليك القدر وأنت مأجور، وإن جزعت جرى عليك القدر وأنت مأزور)، رضيت بقدر الله: (وأعرف الناس بالله أرضاهم بأقداره)، وتجلّدت ولا شامتين عندي، وما قلت إلا ما يرضي ربي: {إنَّا لٌلَّهٌ وّإنَّا إلّيًهٌ رّاجٌعٍونّ} والحمد لله على قضائه وقدره، اللهم ارحمها رحمة واسعة، واجعل هذا اليوم خير أيامها، واغفر لنا ولها، ولا تفتنا بعدها:
إن الطبيب بطبّه ودوائه
لا يستطيع دفاع محذور أتى
ما للطبيب يموت بالداء الذي
قد كان يُبري مثله فيما مضى
ذهب المداوي والمداوى والذي
جلب الدواء وباعه ومن اشترى
وأكببتُ على أمي أمطر رأسها وجبينها ويديها قبلاً حرّى كما لم أفعل من قبل، فلقد ماتت أمي:
ودعتها أمس يحدوني بصيص رجا
بأن يكون غد خيرا لمنتظر
وعدت في لهفة أرجو انتباهتها
وإذ بهـا لا تناديني: هـلا عُمري
ولا تمد يدا نحوي تعانقني
ولا تسائل عما جدّ من خبري
وجدتها جسدا تكسوه صفرته
نورا رهيفا سرى من جسمها النظر
فما ملكت انكبابا فوق جبهتها
وخدها والجوى في القلب كالشرر
أجل لقد ماتت أمي وإن لم يقتنع بذلك (ريان) حفيدها ذو الأعوام الأربعة الذي ما زال مصرّا على أنها لم تمت، لأنها قد قالت له: إنني سأذهب إلى الرياض، وسأعود بعد أيام، اي وربي لقد ماتت أمي يا (ريان) يا من تعوّد منذ سنتين ألا ينام إلا في حضنها، فيؤنس وحشتها، لقد ماتت، ولن تعود إليك، ولن تنعم بحضنها حتى لو كانت قالت لك: إنها ستذهب إلى الرياض، وستعود بعد أيام، فلئن كانت قالت لك هذا، وأكدته، لأفعالها يا (ريان) يا نديم أمي كانت تقول لغيرك غير ذلك، ألا تعلم يا (ريان) يا حبيب أمي أنها قد أعطت من اعتادت أن يشاركها رزقها من المحتاجين نفقات شهرين مقدما، لأنها تخشى ألا تعود قريبا من الرياض؟
فأحسن الله عزاءنا وعزاءك يا (ريان) يا أنيس أمي، فلقد فقدنا وفقدت عزيزا، أحسن الله عزاءنا وعزاءك يا (ريان)؛ فهذا أمر الله وقضاؤه، و(إنا لله وإنا إليه راجعون رجوع من سلم لأمره، واستسلم لحكمه، ورضي بقضائه وقدره، وعلم أن مقادير الآجال عنده معلومة، ومجاري الأفعال منه غير مدفوعة).
وشاخ الطفل فجأة
عدنا إلى المستشفى بعد ساعتين لتسلّم جثمان أمي، لنقله إلى القصيم، لنواريه الثرى لثرى هناك، وقد عجبنا كيف لا ترق قلوب العاملين في مراكز حفظ الموتى؟ لقد رأينا فيهم من الفظاظة والغلظة ما لا يحمدون عليه!!! عجباً لهم ألا يعتبرون؟ ألا يكفيهم الموت واعظاً:
في عبرة الموت آية لمعتبر
وفي زواجره ردع لمزدجر
أم أن كثرة الإمساس تقلل بل ربما تميت الإحساس؟ هذا ما أرجحه فيهم وفي أكثر أطباء العناية المركزة، والله يغفر لنا ولهم.
*، ويمر قطار الذكريات بها حيث يمرض وليدها حتى يشرف على الهلاك، وهو لا يكاد يفارق كتفها تألما وبكاء، ولكنها تصبر على تعبه وشقائه؛ لأنها أمه، ومن مثل الأمهات، ألا ما أصدق قول إحداهن عن الوالدات كلهن: (ما أمضّ حرارة قلوبهن! وأقلق مضاجعهن! وأطول ليلهن! وأقصرنهارهن! وأقل أنسهن! وأشد وحشتهن! وأبعدهن عن السرور! وأقربهن من الأحزان!!!).
*، لأنه قد بلغ أشده، وبلغ أربعين سنة، ومع ذلك ما زالت أمه حريصة على أن يأكل هذا، ويشرب ذاك، وأن يزيد من هذا، ولا يبقي شيئا من ذاك، وكم تنبّه من نومه عليها وهي تتأكد من أن الغطاء عليه ضاف، وكم انسلت إلى غرفته في جنح الظلام تتأكّد من اعتدال وسادته ووجود كأس الماء قرب فراشه، وغير ذلك مما لم تزل تفعله معه منذ كان في العقد الأول من عمره، لأن قلبها لا يشيخ، ولا يعجز، ولا يشيب، وقد كادت نفسه توهمه أنه حقا ما زال طفلا، وقد صدق من قال: (يظل الرجل طفلا حتى تموت أمه، فإذا مات شاخ فجأة)، وهأنذا لا أستطيع أن ألتفت ورائي، لئلا تراني أمي بعد أن شبت فجأة، فمن كان يضفي علي حنانا ودلالا ها هوذا جسداً مسجّى سحبت عليه أذيال الفناء:
يا أطيب الأهل روحا ضمّه بدن
أستودع الله ذاك الروح والبدنا
رحم الله أمي رحمة واسعة.
ولكن مَنْ له أم كأمي؟:
الأمهات بلا ريب أرق الناس قلوبا، وأعظمهم رحمة، وأصدقهم مودة، ولكن مَنْ له أم كأمي؟:
* مات الأب، وترك بنين وبنات صغارا، (زُغب الحواصل لا ماء ولا شجر)، فمن كان لهم بعد الله تعالى حين رحل كاسبهم ومربيهم؟ لقد قيض الله لهم أما رؤوما كانت لهم نعم الأم ونعم الأب، صبرت على محن الزمان ونوائب الدهر أملا في أن ينبتهم الله نباتا حسنا، فكم شقيت ليرتاحوا، وكم سهرت ليناموا، وكم بكت ليضحكوا، وكم جاعت لا ليشبعوا، بل رجاءأن يتخففوا من لأواء الجوع، لقد جعلتهم قلبها ومخ عظامها وطرفها وعينها. فحفظت أمانة، وكفلت أيتاما، وحين حقق الله أملها فيهم لم يزل لسانها لاهجا بحمد الله وشكره على توفيقه، ومرددا دون فتور ولا وهن: (الحمدلله، ليست ندامة، فقد أقرّ
الله عيني بهم)،
أتدرون مَنْ هي تلك الأم؟
إنها أمي... فمَنْ منكم له أم كأمي؟
* ولقد تفكّرت وتدبرت قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن علمه ماذا عمل فيه)، وتأمّلتُ حال (أم عبدالله) كيف ستجيب عند السؤال؟ فوجدتها قد أفنت عمرها صياما في النهار، وقياما في الليل، كانت لا تنام من الليل إلا أقله، تقضيه صلاةً وتسبيحاً ودعاء وسماعا للقرآن الكريم من إذاعته، ومتابعة لبرامجها النافعة، لأن إذاعة القرآن الكريم كانت نافذتها الوحيدة على العلم والعالم، وأما شبابها فلم تتنعم به، بل أبلته كدحا ودأبا على كفالة الأيتام في طهر وعفاف، وأما المال فمن أين لمثلها مال؟ نالت منه القليل من أبنائها وبناتها، فوالله ما كانت تدخره حذرا من روعة الزمان، ولا تكاثر به العشيرة ولا الجيران، بل كانت تتقاسمه مع الأرامل والأيتام، ولسان حالها يقول:
يجودُ علينا الأكرمون بمالهم
ونحن بما جاد الكرامُ نجودُ
فكانت والله من أنعم الناس عيشا، لأنها تحلّت بالعفاف، ورضيت بالكفاف، وتجاوزت ما يخاف إلى ما لا يخاف، فقنعت بما أعطاها ربها فقرت عينها، ورضيت باليسير فطابت معيشتها، كانت تعطي مسرورة بما تبذله، سريعة بما تعطيه، لا تلتمس بذلك عرض الدنيا، فيحبط عملها، ولا تطلب المكافأة؛ فيسقط أجرها، يأتيها قليل المال عفوا صفوا، فتنفقه على المحتاجات والمحتاجين قربا وقصوا، فكم من عورة كريمة سترتها، وكم من خلّة محتاجة سدتها، وإذا كان الجاهل يحسب المتعففين أغنياء من التعفف، فلن يلام من يرى جودها في الإنفاق إذا لم يشك لحظة في الاعتقاد بأنها ذات يسار وغنى.
وما يدري المخدوع أنها مقلة مواسية، لا تنفق من فضل مالها، بل جودها الفطري وكونها جعلت همها الآخرة لا الدنيا، صيرا غناها في قلبها، وجعلاها تتقاسم مع المحتاج رزقها المقسوم من ربها:
ليس جود الجواد من فضل مالٍ
إنما الجود للمقلِّ المواسي
أتدرون مَنْ تكون (أم عبدالله)؟
إنها أمي... فمَنْ ذا عنده أم كأمي؟
كانت سمحة سهلة هينة لينة الجانب، ترضى بالقليل، ويغمرها الكثير. تأكل ما وجدت، ولا تسأل عمّا فقدت، شاكرة لمن أعطى، غافلة عمّن أكدى، عفة اللسان، طاهرة الجنان، أوجدت بينها وبين القلوب نسبا، فأحبها كل من لقيها، ولم تكتسب أعداء، لأنها لا تحمل إلا الخير في قلبها، قناعتها طهّرت قلبها من الحسد، وحرصها على مداراة الناس عف بلسانها عن الفدد، وجودها على البعيد والقريب جذب إليها كل القلوب، لا يمكن أن تسمعها يوما تذكر أحدا بسوء، ولا تقول: هذا أعطى، وذاك منع، وعلى الرغم من أن المرء مع تقدم عمره يتغير مزاجه، فيغضب لما لا يُغضب، ويضيق ذرعا بالطفل الصغير، ويلقي بالا لليسير وللكثير، لكنها كانت بخلاف ذلك كله، تتألف الصغير والكبير، وتفرح من الزوار بالجمِّ الغفير، صدرها أوسع من دارها، ترى القادم لها صاحب فضل عليها.
فهل تعرفون أحدا خرج من الدنيا وقد اتفق على حبّه الأبناء والبنات، والأحفاد والأسباط، وزوجات الأبناء وأزواج البنات، وسائر الأقارب والجيران والمعارف؟
إنها أمّي... فهل كل له أم كأمي؟
ماذا فقدت بفقد أمي؟:
أمعنت في التفكّر في الإجابة على هذا السؤال، لأنني رأيت فقدها مختلفا عن فقد أي مفقود، فوجدت أنني فقدت كل شيء بفقد أمي:
* كان في الدار دوحة خضراء وارفة الظلال، تتهافت عليها كل حين ودون استئذان الطيور المقيمة والمهاجرة، ويقتسم معها أهل الدار طعامهم وشرابهم، فيأنس كل بكل، فلا الدار تستغني عن غناء طيورها، ولا الطيور تزهد بدوحتها، وفجأة اجتثت الشجرة من أصلها، فلا بد للطيور أن تهاجر، وأنّى لها بعد ذلك أن تجتمع؟.
وهكذا كانت أمي، دوحة غناء، وخيمة وارفة، يجتمع حولها أولادها وأحفادها وأسباطها كل حين دون حاجة إلى ميعاد، وبلا شعور بأدنى حرج، ولا تسألواعن مقدار سعادتها إذا التمّ شملهم، فذلك يوم عيدها الذي لا تستطيع فيه كتمان سعادتها، ولن يعسر عليك اكتشاف غمّها إن غاب بعضهم، لأنّ ذلك ما لا يطيق قلبها الحنون إخفاءه، ولا لسانها العذب تجاهله، فكم ستسمعها تقول: (إيه، والله ما ينقصنا إلا فلان)، وأولادها عندها كالحلقة المفرغة لا تدري أين طرفاها، وأحبّهم إليها الغائب حتى يعود، والمريض حتى يشفى، والصغير حتى يكبر، وبرحيل أمي ألن نكون كطيور الدوحة تفرقا وشتاتا؟:
فإذا الدنيا كما نعرفها
وإذا الأحباب كلّ في طريق
وإن التقينا فأين تلك الروح الصافية التي تضفي على اللقاء سعادة وحبورا؟ لقد فقدنا بفقدك يا أماه ما لا يعوّض:
كنّا كأنجم ليل بينها قمر
يجلو الدجى فهوى من بينها القمرُ
وصدق من قال لي في تعزيته: (إنّ فقد الكبير هو الفقد الحقيقي، فبفقده يتفرق الشمل المجتمع)، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ورحمك الله يا أمي (يا أم عبدالله)، وجمعنا الله بك وبأبي ووالديكم مع الأنبياء والصديقين والشهداء في الفردوس الأعلى من الجنة.
لقد فقدتُ بفقد أمي الحب الصادق الذي لا نفاق فيه ولا رياء، والنقاء الخالص لا يشوبه غش ولا كدر، وهو ما يندر في زمن لبس الناس فيه الثياب على قلوب الذئاب:
إذا أنت فتّشت القلوب وجدتها
قلوبَ الأعادي في جسوم الأصادق
فلا يأمن فيه الحصيف غدر الصديق، لأن القلوب اليوم تقلّبها المصالح إلا ما رحم ربي، وقليل ما هم، ولكن قلب الأم وحبها فقط هما اللذان لا يتغيران: (قد يصير الإخوة أعداء، وقد يهجر الأزواج زوجاتهم، والزوجات أزواجهن، ولكن حب الأم هو الباقي، فهو يعيش في إقبال الحظّ وإدباره، وفي تنكّرالعالم وتجهّم وجه الدهر).
أجل لقد فقدتّ وبفقدك يا أمي كثيرا، فالمال يعوّض بمال، ولكن الحب الصادق والصفاء والنقاء ماتت إلا من قلوب الأمهات، ومن أين لي أم وقد اخترمت يد المنون روح أمي؟، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ورحمك الله يا أمي (يا أم عبدالله)، وجمعنا الله بك وبأبي ووالديكم مع الأنبياء والصديقين والشهداء في الفردوس الأعلى من الجنّة.
* أتدرون من يملك حاسة سادسة يصدقُ حدسها؟ إنه قلب أمي، كم أدركت من سماع صوتي عبر الهاتف أنني أعاني من مشكلة، أما إذا قرأت قسمات وجهي فلا يمكن أن تخطئ كبد الحقيقة، ولأنها تحزن لحزننا، وتطير فرحا بفرحنا، كنت أحاول إخفاء ما يكدّر عليها صفو حياتها، ولكنها كانت تقرأ ما وراء السطور، وكنت إذا أهمّني أمر حاولت أن أنفّس عني بسماع صوت أمي دون أن أفصح لها بما أهمني، ليزول عني ما أحزنني، ولكنها بحاستها السادسة تدرك أن أمرا يقلقني ولو لم أطلعها عليه، فيفرج الله بحديثها عني، لكن الغم ينتقل من قلبي إلى قلبها.
ومن عجائب ما حصل لي في أثناء المكث الأخير لأمي في المستشفى أنني بعد الخروج من زيارتها مغموماً حزيناً لما حلّ بها، كان يحدث لي كثيرا أن أهم بإخراج الهاتف لأتصل بوالدتي في بيتها بالرس، ليزول همّي وغمّي، كما كنت أفعل من قبل حينما كان يحزنني أمر، فأفيق على الحقيقة المرة، ألا وهي أنني بهذا كمن يداوي بالتي كانت هي الداء، وأن أمي لا يمكن أن أسمع صوتها؛ لأنني قبل لحظات تركتها مسجاة على السرير بلا حراك ولا كلام، ولأنني كنتُ أناديها، وأقول لها: (أنا صالح)، بل أذكر الكنية التي كانت تحبها ولا تناديني إلا بها: (أنا أبو أسامة)، فيبكي مَنْ حولها من المرضى وزوارهم، ولا سيما الأمهات، أما أمي فهي وحدها التي لا تجيب، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
لقد فقدت بفقدك يا أمي ما لا يعوضه سواك، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ورحمك الله يا أمي (يا أم عبدالله)، وجمعنا الله بك وبأبي ووالديكم مع الأنبياء والصديقين والشهداء في الفردوس الأعلى من الجنة.
* أقصر الطرق إلى تحقيق المنشود دعاء الوالدين، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن: دعوة الوالد لولده، ودعوة المظلوم، ودعوة المرء لأخيه)، وإن دعوة الأم لا يمكن أن تضل الطريق، وأمي- رحمها الله رحمة واسعة - كانت دائمة الرضا عن أولادها، شديدة الحب لهم، ولذلك لم تكن تفتر عن الدعوة الصالحة لهم في قيامها وقعودها بقلبها السليم الذي لا يعرف غلا ولا أحقادا، فكنت أرى أثر دعائها عيانا لا مرية فيه ولا ارتياب، فكم من أبواب الخير تفتحت من دون احتساب، وكم مكيدة من مكايد الحاسدين دُحرت بفضل الله تعالى وبقبوله دعاءها، وإني مدين بكل ما وصلت إليه لله تعالى ثم لأمي رحمها الله، ولكن ها هو ذا الباب قد أوصد بوفاة أمي، فما أفدح المصاب! وما أعظم الخسارة!!!فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ورحمك الله يا أمي (يا أم عبدالله)، وجمعنا الله بك وبأبي ووالديكم مع الأنبياء والصديقين والشهداء في الفردوس الأعلى من الجنّة.
في الدنيا ملذات أعظم من الطعام والشراب وسائر الملذات المعهودة، ومن ألذ الملذات التي يغفل عنها كثير من الناس إدخال السرور على القلوب، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله سرور تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه ديناً، أو تطرد عنه جوعا)، فكيف إذا كان القلب الذي تغمره بالسرور هو قلب أمك، سواء أكان ذلك ببرها الواجب الذي لا فضل في القيام به، أو ما زاد عليه، إن لذلك لذة لو وزنت بها ملذات الحياة الدنيا لرجحت بهن، لقد أدركت أن أمي تحب بذل الخير ومساعدة المحتاجين، ولكثرة من تعرف منهم كان من البر بها جعلها طريقا لإيتاء بعض الزكاة وبذل شيء من الصدقات، فلا تسأل عن مقدار سرورها، ومهما حلق بك الخيال وأبحر فلا يمكن أن يحيط بما يكون لذلك في النفس من سعادة وحبور، ولا شك في أنه لا يخفى على مثلي أن بر الوالدين لا ينقطع بوفاتهما، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سئل: يا رسول الله هل بقي من بر أبوي شيء أبرّهما به من بعد موتهما؟ قال: (نعم، الصلاة عليهما - أي الدعاء لهما - والاستغفار لهما، وإنفاذ عهودهما، وإكرام صديقهما، وصلة الرحم الذي لا رحم لك إلا من قبلهما)، لكن كيف السبيل إلى التلذذ بإدخال السرور إلى قلبها، وما يتبعه من دعائها؟
لقد فقدت كل هذا برحيلك يا أمي، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ورحمك الله يا أمي (يا أم عبدالله)، وجمعنا الله بك وبأبي ووالديكم مع الأنبياء والصديقين والشهداء في الفردوس الأعلى من الجنة.
*، وأنّ التصدّق منه قد أقسم رسولنا صلى الله عليه وسلم أنه لا ينقصه، بل يزيده، وأما الإنفاق على الوالدين إذا قُصد به وجه الله والدار الآخرة فهو أوسع أبواب الرزق وأرغده وأسرعه، فمن أراد بركة الرزق ورغده فليسرع إلى الإغداق على أبويه، ولقد رأيتُ هذا بأم عيني، فوجدت أن ما ينفقه الولد على أمه أو أبيه يخلفه الله عليه مضاعفا أضعافا كثيرة، وعاجلا غير آجل، مع ما يدخره له مولاه من ثواب الآخرة، ووالله ما قل ما أخلفه الله عليّ مما أنفقته على أمي في أي مرة من المرات ما قلّ عن عشرة أضعافه، حتى أيقنت أن أمي قد جعلها ربي من أوسع أبواب رزقه لي.
فهنيئاً لمن أدرك أبويه أو أحدهما، وهنيئاً لمن وفقه الله لبرهما، وهنيئا لمن احتاج له أبواه، والله وحده يعلم كم تمنيت أن أبي مد الله في عمره لأتمكن من بره، وما أعظم مصابي بفقدك يا أمي!!! فإنا لله وإنا إليه راجعون. ورحمك الله يا أمي (يا أم عبدالله)، وجمعنا الله بك وبأبي ووالديكم مع الأنبياء والصديقين والشهداء في الفردوس الأعلى من الجنة.
وقفة على قبر أمي:
وقفت على قبرها واجما، لا أكاد أصدق ما ترى عيناي، فبالأمس كنا نمسح عن جبينك يا أمي الغبار، وها نحن أولاء نجتهد في رمسك بالتراب، ولكنني بعد برهة من الوقت استعذت بالله من الشيطان الرجيم، وأفقت على الحقيقة التي ما عنها مفر ولا مناص، وهي أن (هذا والله هو المنزل الحق، والوعد الصدق، والوعيد الشديد، والمسكن الذي ليس لأهل الدنيا عنه محيد، وأن هذا والله هو المفرّق بين الأحباب، والمقرّب من الحساب، والذي به يعرف الفريقان منازلهم: أهل السعادة وأهل الشقاء)، وأن هذا المصير إنما هو أمر الله الذي لا مدفع له، وحكمه الذي لا حيف فيه، وقدره الذي سوّى فيه بين عباده، فليس للساخط فيه عُتبى، ولا للراضي منه منجى، وليس إلا الانقياد فيه لنازل القضاء، فحمدت ربي على قضائه وقدره، وهمهمت في صدري متمتما: ها أنت ذي يا أماه أصبحت بعد النضارة والغضارة ورونق الحياة تحت أطباق الثرى جسدا هامدا. فما أعظم مصابي بك يا أماه!!! لكنّ ربي أمرني بالصبر، ووعدني عليه بالأجر، فصدّقت وعده، ورضيت قضاءه، ولن أقول ولن أعمل إلا ما يرضيه إن شاء الله:
ولا خير في مَنْ لا يوطّن نفسه
على نائبات الدهر حين تنوبُ
فأحتسب على الله مصابي بك يا أمي، وأسأل الذي استودعني في أحشائك جنينا أن يرحمك بعد أن استودعناك الردم، ووسدناك الثرى، ولا أقول إلا ما ينفعك حقا:
اللهم إني أمسيت أرجوك لها، وأخافك عليها، اللهم فصدّق رجائي بك لها، وأمّن خوفي منك عليها، إنك على كل شيء قدير.
اللهم ارحم غربتها، وآنس وحشتها، واستر عورتها يوم تكشف الهنات والسوءات.
اللهم آمن روعتها يوم تخشع الأصوات، وتختلف اللغات، ويحشر الأحياء والأموات، وتكثر الحسرات على فوات الحسنات، وتعنو الوجوه للواحد القهار، خالق الليل والنهار، وعالم الخفايا والأسرار، اللهم واجبر مصابنا بها، واجعلنا ممن يتلقى أمرك بالقبول، وأقدارك بالتسليم، والحمد لك على قضائك وقدرك، ورحم الله من قال: (آمين) {إنَّا لٌلَّهٌ وّإنَّا إلّيًهٌ رّاجٌعٍونّ}.