السلام عليكم ورحمة الله وبركاته... وبعد:
قرأت يوم الاثنين 21 جمادى الاولى العدد رقم 11253 ما خطه الاستاذ سعد بن محمد الموينع تفاعلا مع الأستاذ عبدالله الرويس ومن قبلهما الاستاذ عبدالفتاح أبو مدين حول موضوع طالما ملأ صفحات كتب الادب وشغل ذائقة الناس الذين يستحث تساؤلاتهم دائما الابداع المتفرد ويستوقف اعجابهم الاصرار على ملازمة التاريخ المضيء والى ما يشاء الله، إنه المتنبي وكفى، وحين أنهيت قراءة ما كُتب وجدتني أسترخي مستعيداً من الذاكرة قول شاعرنا:
أنام ملء جفوني عن شواردها
ويسهر الخلق جراها ويختصم
نعم يا أبا الطيب هذا بعض من الخصام وهذه شوارد وأي شوارد صنعت بها منهجاً واستخلصت منها رؤية الأجيال القادمة، أجيال تسهر وتتسامر مرددة شواردك فإن اتفقت فلحن يُنشد ويتردد صداه وان اختلفت فتأكيدٌ للزعامة والتميز، يقولها المتنبي بكل ثقة انه في حين ينام نوما عميقا يسهر الناس على انشاد قصائده بل نظم قلائده ويختصمون فيها لماذا قالها وفيمن قيلت وماذا كان يقصد بهذا البيت وما معنى تلك الجملة وهذه الكلمة وما الذي حصل بعد ان قيلت القصيدة ومن رفع بمدحه ومن أسكت بهجائه وبمن تغزل ومن رثى وما الحكم التي قالها وسارت على ألسنة الناس أمثالا وأي تشبيه اخترعه وأي وصف أبدعه؟ كل هذا يحدث والمتنبي يغرف من بحر الشعر أعذبه ليرد الناس الذين سمعوه والذين سمعوا عنه والذين عاصروه والذين أتوا بعده الى يومنا هذا. وإن كان هناك شعراء كُثر لم يأخذوا حقهم في الوجود على صفحات الذاكرة رغم روعة ما قدموه فإن لدينا في المقابل أسماء نال أصحابها نصيبهم من هذا الوجود وحين نأخذ المتنبي مثلا من أمثال عديدة في حضارتنا الادبية والفكرية المجيدة نجد التاريخ قد أنصفه وخلد اسمه:
بقيت جموعهم كأنك كلها
وبقيت بينهم كأنك مفرد
هكذا يختلف الناس ويختصمون حول المتنبي وشعره ولكن العجب أن يأتي من يختلف معنا حوله لينتصر لشاعر أتى بعده بسنين ضوئية طويلة تفصل بين الشيء واللا شيء، لقد ظلم نزار قباني بهذه المقارنة وليتها كانت مقارنة فقط بل جعلت مفاضلة لصالحه وإن كان نزار قد أجاد في بعض قصائده فإن هذا لا يشفع له فلا تجوز مقارنته إلا مع شعراء عصره فضلا عن تفضيله على شمسٍ ساطعة كالمتنبي الذي يقول في إحدى قصائده:
إلى كم ذا التخلف والتواني
وكم هذا التمادي في التمادي
وشغل النفس عن طلب المعالي
ببيع الشعر في سوق الكسادي
وما ماضي الشباب بمستردٍ
ولا يوم يمر بمستعادِ
ويقول شاعرنا مفتخراً:
أنا صخرة الوادي إذا ما زوحمت
وإذا نطقت فإنني الجوزاء
وإذا خفيت على الغبي فعاذر
أن لا تراني مقلة عمياء
وقال أيضا:
ومن جاهل بي وهو يجهل جهله
ويجهل علمي أنه بي جاهل
تحقر عندي همتي كل مطلب
ويقصر في عيني المدى المتطاول
أنشد شعره في وقت لم تكن أذرع الإعلام القوية تحكم قبضتها عليه وعلى الناس (جرائد ومجلات ومكتبات وفضائيات تلفزيونية وإذاعية) ولكنه وجد آذانا صاغية وقلوبا واعية تعرف معنى الابداع سواء كان شعراً أو نثراً، ظهر في وقت كانت فيه لغتنا العربية تفاخر بمكانتها أمام كل لغات الدنيا، حين كانت لغة الدين والعلم والأدب أي لغة الحضارة، ورحل قبل أن يصل بها الحال على ما هي عليه الآن، لهجات لا حصر لها وشعر يكتبه من يكتبه ويقرؤه من يقرؤه فلا شروط فيه ولا قيود فهو الآن المقدم وأما ما ورثناه من روائع شعرنا الفصيح الخالد نجده يتبوأ مكانا قصيا فلا يهم بأي مرتبة يوضع، ولأن البيئة التي عايشها والمجتمع الذي احتضنه هكذا فكان لا بد أن يجيد ويبتكر وهذا ما حصل بالفعل بل ان المتنبي حلق في سماء الابداع وحده ليأتي الشعراء بعده وإن كان في الغزل مقلا فهذا لا ينفي تمكنه منه رغم امساك شعراء كثر بناصية هذا الغرض الجميل ومما قال في الغزل أو هي من أعذب الغزل علماً أنها قيلت في أحد ممدوحيه:
يا من يعز علينا أن نفارقهم
وجداننا كل شيء بعدكم عدم
إن كان سركم ما قال حاسدنا
فما لجرح إذا أرضاكم ألم
وقوله أيضا:
ومن لبه مع غيره كيف حاله
ومن سره في جفنه كيف يكتمُ
ولما التقينا والنوى ورقيبنا
غفولان عنا ظِلْتُ أبكي وتبسمُ
فلم أرَ بدراً ضاحكاً قبل وجهها
ولم ترَ قبلي ميتاً يتكلمُ
وأظن أن شخصية المتنبي الطامحة للمعالي أثرت هذا التوجه وفتحت أمامه فضاء الخيال فضلا عن وهج الموهبة التي قدر له ان يمتلكها واستطاع بها وصف حاله المضطربة النازعة دوما للترحال والبحث.
يقول عن حاله هذه:
فما حاولت في أرضٍ مقاماً
ولا أزمعت عن أرضٍ زوالا
على قلق كأن الريح تحتي
أوجهها جنوباً أو شمالا
ولأن حياته كانت كذلك فقد مر بتجارب مثيرة ولحظات حاسمة وقف أمامها وتصدى لها يقول في إحدى قصائده:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم
وتأتي على قدر الكرام المكارم
وتعظم في عين الصغير صغارها
وتصغر في عين العظيم العظائم
ويقول وهو يرد على من نعوه في مجلس سيف الدولة ومخاطباً إياه:
يا من نعيت على بعد بمجلسه
كلٌ بما زعم الناعون مرتهن
كم قد قتلت وكم قدمت عندكم
ثم انتفضت فزال القبر والكفن
وقوله:
أرى المتشاعرين قد غروا بذمي
ومن ذا يحمد الداء العضالا
ومن يك ذا فم مر مريض
يجد مرٌ به الماء الزلالا
وربما قال قائل انه كان ينشد شعره لطلب المال أو الشهرة ولم يعلم بأنهما كانا وسيلة للوصول للغاية وهي المنصب وهذا أعز وأشرف وقد قال:
إني أصاحب حلمي وهو بي كرمٌ
ولا أصاحب حلمي وهو بي جُبن
ولا أقيم على مالٍ أذل به
ولا ألذ بما عرضي به درن
ويقول أيضا:
ومن يبغِ ما أبغي من المجد والعلا
تساوى المحابي عنده والمقاتل
غثاثة عيشي أن تغث كرامتي
وليس بغث أن تغث المآكل
وقوله أيضا:
كل حلمٍ أتى بغير اقتدار
حجة لاجئ إليها اللئامُ
من يهن يسهل الهوان عليه
ما لجرحٍ بميتٍ إيلام
ولا أعلم وسيلة استخدمها أي شاعر أو غاية أراد الوصول اليها فأعطى مقابلها هذه الكنوز التي لا تقدر بثمن، إذ حين نتأمل في شعر المتنبي نجد أدبا صيغ بوجدان محب وعقل حكيم ورؤية ناقد وفكر فيلسوف وتجربة عالم وحزم قائد كل هذا كان المتنبي، ومن يرجع لديوانه يصيبه العجب من هذه الظاهرة في تاريخنا إذ كيف استطاع هذا الشاعر ابتكار كل تلك الافكار والتشبيهات والحكم والامثال، فإني والله أقف على البيت الواحد وقفة طويلة لأتأمله وأحاول أن أزيل دهشتي بتكرار قراءته فأجدها تزيد، حتى الامثلة التي سقتها لم تكبح جماح رغبتي بالمزيد، ومثله كثير من شعراء ذلك الزمان وكنوزهم بين أيدينا فمن يقدر قيمتها.
ولما صار ود الناس خباً
جزيت على ابتسامٍ بابتسامِ
وصرت أشك فيمن أصطفيه
لعلمي أنه بعض الأنامِ
يحب العاقلون على التصافي
وحب الجاهلين على الوسامِ
وآنف من أخي لأبي وأمي
إذا ما لم أجده من الكرام
أرى الاجداد تغلبها كثيراً
على الأولاد أخلاق اللئامِ
ولست بقانع من كل فضل
بأن أعزى إلى جدٍ همامِ
ولم أرَ في عيوب الناس عيباً
كنقص القادرين على التمامِ
ولأن قافلة الابداع يجب ألا توقف نطلب اعطاء الفرصة لكل محاولة نتحسس فيها نبض الكلمة الصادقة والخيال العذب دون أن يجتاز هذا حدود آداب حضارتنا العظيمة.
أخيراً أقول يا أبا الطيب ما قلت: