Wednesday 6th august,2003 11269العدد الاربعاء 8 ,جمادى الثانية 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

أحداث التاريخ بين الغالب والمغلوب أحداث التاريخ بين الغالب والمغلوب
د. محمد بن علي آل خريف

لا شك أن الدارس للتاريخ والمحقق في أحداثه يواجه صعوبة بالغة في التمييز بين الحقيقة والاختلاق، وكما قيل يكتب التاريخ صانعوه، فالمتابع لأحداث التاريخ السابقة يتملكه العجب من ضخامة التناقضات في رصد هذه الأحداث وتصوير معالمها، ويجد نفسه في خضم مضطرب من الروايات والنقولات التي يصعب على الباحث عن الحقيقة الذي لم يشهد هذه الأحداث أن يميز بين صحيحها وسقيمها، ومع تميز المؤرخين المسلمين بالحرص على رصد الأحداث بأمانة وصدق ووفق ضوابط علمية محكمة، خاصة في الصدر الأول من ظهور الإسلام إلا أنه مع تتابع الأحداث وتطورها، وظهور الصراعات داخل البنى الإسلامية أخذ كل فريق يسجل الأحداث وفق الصورة التي يرغبها حتى ولو كانت لا تمت للواقع بصلة، مما جعل كثيراً من الأحداث التاريخية مثقلة بكم هائل من الروايات غير المطابقة للواقع، ورغم الجهود المضنية التي بذلها المؤرخون المسلمون في تنقيح التاريخ الإسلامي، إلا أنه لا يزال بحاجة إلى جهود مضاعفة لتحقيق أحداثه على الرغم من صعوبة الوصول إلى الحقيقة المطلقة في بعض الأحداث لغياب شهودها بعد مضي هذه الفترة الزمنية الطويلة.
وقس على ذلك الأحداث العالمية الكبرى ومع اتساع نطاق فن الدجل الإعلامي الموجه كجزء من الحرب بين الخصوم فإن التزوير لأحداث التاريخ سيبلغ مدى لم يمر له مثيل في الأمم السابقة.
وكشاهد علمي صارخ على ما قررناه سابقاً فإن المتابع للحالة العراقية يجد ذلك واقعاً حياً يجسد تزوير التاريخ في أجلى صوره، لقد كان النظام العراقي ملء السمع والبصر، يشاد بإنجازاته وبطولاته وبسالة قادته بشكل قد يفوق الخيال، حتى ان الإعلام العربي بما فيه خصومه الآن وجل المثقفين العرب ركبوا تلك الموجة العارمة من التمجيد والتطبيل حتى أضحى المواطن العربي العادي منبهراً بهذا النموذج البطولي الفريد حيث تجلى ذلك الانخداع الجماهيري إبان الغزو العراقي المشؤوم للكويت، حينما قاد الإعلام العربي بزعامة مثقفيه القوميين العرب مسيرات التأييد والمناصرة للنظام العراقي الذي زعموا انه سيحرر القدس مثلما زعموا أن سلفه جمال عبدالناصر سيفعل ذلك بعد اجتياح دولة عربية! وأعاد التاريخ نفسه ولم تزل القدس أسيرة الاحتلال، فكم من الكتب والرسائل العلمية ألفت في تمجيد ذلك النظام وكم من الإصدارات العلمية التي بالغت في تسطير الأمجاد والانتصارات، بل كم حولت الهزائم والنكبات إلى انجازات، وكم من القرارات الخرقاء جعلت قرارات حكيمة وتاريخية انتشلت الأمة من الذل والخنوع إلى المجد والريادة والواقع يشهد على ذلك! لو قدر لهذا الكم الهائل من التزوير للحقائق أن يبقى وتطلع عليه الأجيال القادمة التي لا ندري أتعيش أوضاعا أفضل مما نحن فيه أم أسوأ وذلك في علم الغيب الرباني كيف سيكون موقفها؟ .
بل كيف سيكون تأثير ذلك على مسيرتها بالبعد التربوي والحضاري؟.
إن جيلنا يعاني ولا شك من أزمة هوية وخنوع، واضطراب شديد أضفى بظلاله القاتمة على الصغير قبل الكبير في ظل هيمنة قوى الاستكبار على الأمة المسلمة، وفي ظل حيرة وعجز من قبل عقلاء الأمة في البحث عن سبل للخلاص من هذه الأزمات المتتابعة التي هي من صنعنا واستغلها العدو في مزيد من الإذلال والسيطرة.
وفي سياق تسجيل أحداث التاريخ ذاته انظر كيف تحول الوضع بعد زوال النظام العراقي من التمجيد والإشادة إلى التشنيع والإساءة، لقد أصبحت كل الإنجازات والانتصارات المسجلة في حق النظام مظالم وانكسارات لا مثيل لها في التاريخ حتى أن بعض من كان يمجد النظام السابق ويسطر المدائح فيه تحول إلى مؤرخ لمخازيه وفساده، ومع أننا عايشنا بعض هذه الأحداث إلا أنه مع ذلك لا يمكننا التمييز بين الصحيح منها والمختلق، فما بالك بمن سيطلع عليها فيما بعد دون أن يعايشها.
قليل هم الأمناء في نقل الحقائق كما هي، خاصة في هذا الزمن الذي عز فيه الصدق وضعفت الأمانة، لا شك أن الحالة العراقية الراهنة تجسد مقياساً دقيقاً لتسجيل أحداث التاريخ وعلى مر العصور في الأغلب الأعم، حيث ان الطرف الغالب يعمل حثيثاً لاجتثاث أي ذكر حسن لسلفه المغلوب بل يعمد إلى إعادة صياغة الحقبة التاريخية السابقة في أقبح صورة ويطارد أي معلومة إيجابية عن عدوه ولو كانت صحيحة، بل قد يصل به الأمر مع نشوة الانتصار والضغينة على سلفه أن يختلق تاريخاً مزوراً يشوه فيه سيرة من قبله بتعميم مطلق ينسحب أثره على الحقبة السابقة مهما تضمنته من مشاهد مشرقة لبعض أطياف الجيل المسيطر في السابق الذي حتما لا يخلو من مخلصين ونجباء قدموا لأمتهم مواقف مشرفة، فيشملهم التشويه دون أي نظر لتبعات ذلك على الأمة وتاريخها الذي تسعى للافتخار به وتعليمه لاجيالها القادمة، وذلك تحت وطأة الأنانية والنظرة الفردية باختزال الأمة في شخص الغالب، تمهيداً لدورة جديدة من الهيمنة والتسلط تحت مظلة من الإعلام الموجه الذي يقلب حقائق التاريخ رأساً على عقب.
وفي ظل هذه المفارقة العجيبة عند تدوين أحداث التاريخ فإن الموضوعية تحتم على الباحث المنصف التريث في إطلاق الأحكام والتصورات حتى تتضح الصورة القريبة من الواقع بناء على مصادر تحمل قدراً من المصداقية حتى لا تكون تلك الأحكام والتصورات مبنية على وقائع ومعلومات غير صحيحة، فيكون الباحث ممعناً في ترسيخ هذا التزييف للتاريخ دون أن يشعر، فكم ممن يشار لهم بالبنان في العلم والحكمة وقعوا في مثل هذه المزالق عندما أصدروا أحكاما متسرعة تبين مجانبتها للصواب وما ذلك إلا لاعتمادهم المطلق على معلومات موجهة أراد بها مصدرها الحصول على مثل هكذا مواقف، فصعب عليهم التدارك بعد فوات الأوان وكان بإمكانهم استحصال الحصافة في ابداء الرأي لو أعطوا الواقع حقه من الصبر وحسن المتابعة مع إدراك عميق لما بين السطور.
وعليه يمكن لنا أن نقول إن أحداث التاريخ مهما كانت دقة معلوماتها فإنه لا يمكن التسليم المجرد بكل ما تتضمنه من أحداث في ظل هذا التدافع المحموم وغير الشريف لتبييض وتسويد صفحات قد يكون لونها من القتامة أو النصاعة بما يفوق التصور وما ذاك إلا لفساد وترد حلَّ بالأمم حتى أضحت شريعة الغاب هي السائدة فضاع العدل في طلب الحق تحت سلطان القوة، ولن يعود التوازن المطلوب لحياة بني البشر حتى تسود شريعة الله وحكمه بعيداً عن أهواء الإنسان وأطماعه الآنية، ولن نخطئ في القول إذا قلنا إن المؤهل للاضطلاع بهذا الدور هي أمة الإسلام دون غيرها مهما ازدراها الآخرون ووصموها بأبشع النعوت، كونها حاملة الرسالة الخالدة لجميع الأمم لكن ذلك لن يتأتى ما لم تعد الأمة عودة حقيقية وصادقة لمصدر عزها بتمسكها بكتابها الخالد وتتمثله واقعا ملموسا في حياتها وفيما بين أفرادها وفي علاقاتها مع الغير، والتاريخ الصادق خير إثبات بمرورياته الموثقة لمواقف وأحداث سطرها على الواقع جيل السلف المتربي في مناهل النبوة بشكل قد لا يمر على البشرية مثله، والحق ما شهد به الأعداء الذين قرر كثير من عقلائهم في كذا موقف أن أمة الإسلام هي الأمة الوحيدة القادرة على قيادة الأمم الأخرى إلى السلم والعدل المنشود بما تحمله من مبادئ ومثل يعز وجودها لدى أي أمة أخرى.
لكن يبقى السؤال الصعب والمر وهو: هل الأمة مهيأة للقيام بهذا الدور أم هو الخنوع والضعف والتبعية بدل الريادة والقيادة، وإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. والله الموفق.

ص.ب 31886 الرياض 11418
فاكس: 4272675

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved