حينما توجّه إلى المستشفى في ليلةٍ من ليالي الشتاء القارس، كان ذهنه قد ازدحم بعشرات الصور التي تعرضها ذاكرتُه من الماضي البعيد والقريب عن علاقة الصداقة الحميمة بينه وبين صديقه، صورٌ كثيرة ضاحكة وباكية، واضحة وغامضة، كان أثرها في نفسه الحزينة كبيراً، وردَّد وهو يرى بوَّابة المستشفى «يا إلهي، سبحان الله كيف تتبدَّل الأحوال بهذه السرعة المذهلة».
كان الظلام قد ضرب بأطنابه على المكان، وكان الضباب الكثيف في ذلك المساء المكتظّ بالحزن قد أثار في نفسه من القلق والاضطراب والإحساس بالوحشة ما كاد يحول بينه وبين مواصلة الانطلاق إلى الجناح الذي ينام فيه صديقه الأقربُ إلى نفسه.
مازال وقع الخبر السيئ على نفسه قوياً، فصديقه كان معه قبل ساعاتٍ قلائل حيث قضيا وقتاً ضاحكاً مع عشرات النُّكَت والطرائف التي تزدحم بها ذاكرة الجوَّال الذي كان يتلقَّى عشرات الرسائل الساخرة والساخنة يومياً، وها هو ذا الآن يتجه إلى المستشفى بعد أن بلغه خبر إغماءَةٍ مفاجئةٍ يطلق عليها الطبّ «غيبوبة» بسبب جَلْطةٍ في القلب، جعلت صاحبَه الضاحك المَرِحَ جسداً بلا حِراك.
يا لها من حياةٍ خادعةٍ، ومن سعادةٍ دنيويةٍ لا تكتمل، ومن قضاءٍ مكتوبٍ لا يستطيع أحدٌ ردَّه، وخطر بباله سؤال عنيف مؤلم: يا ترى هل ستكون خاتمةَ صديقي العزيز تلك النكت والطرائف التي يخرج بعضها عن حدود الأدب والحياء لتدخل في سراديب العبارات المكشوفة التي لا تليق؟، هل سيودِّع هذه الدنيا على أصداء تلك الرسائل الجوَّالية العابثة؟؟.
وحاول أن يطرد عن ذهنه هذه الأسئلة الموجعة التي أَحسَّ بانقباضٍ شديد حين خطرتْ بباله، وأخذ يتمتم: كيف سأحتمل رؤية صديقي الحبيب إلى قلبي وهو في حالةِ ضعفٍ وانكسار، وغيبوبةٍ عن الحياة؟، لا أظنني قادراً على تحمل رؤيته في هذه الحالة البائسة.
وتذكَّر في هذه اللحظة خُطبة الجمعة الماضية التي استعرض فيها الإمام عدداً من الآيات والأحاديث والقصص عن الموت، وفراق الأحبة، واستعداد الناس ليوم الحساب، وشعر أنَّ صوت الإمام يجلجل في مسمعه متسائلاً: مَنْ منا في هذا المسجد يضمن أنْ يصلِّي فيه الجمعة القادمة؟، هل عند أحدٍ منا صكٌ مختومٌ من الله بأنه لن يموت قريباً؟؟، أحسَّ في هذه اللحظة بأهمِّية هذا السؤال الذي يمرُّ بمسامع كثير من الناس وهم عنه غافلون، وكأنَّ الأمر لا يعنيهم أبداً.
وردَّد بصوتٍ مسموع وهو ينظر إلى لوحة قسم «العناية المركزة» الذي يرقد فيه صديقه: يا إلهي، ما هذا الليل العجيب؟، ظلام دامس، وضبابٌ كثيف، ورذاذٌ يتساقط، وبَرْدٌ قارس، وصديقٌ غائبٌ عن الوعي على ذلك السرير الأبيض الحزين، كيف استطيع يا ربي أن أخرج من سيطرة هذه الآلام، وهذا الإحساس بالانكسار والحيرة والقلق، وتَضََعْضُع الهَّمة في نفسي المتعبة؟!
سكت قليلاً، ثم شجَّع نفسه على الدخول إلى جناح صديقه، ودخل ورأى أجهزة طبية كثيرة تحيط بجسده، وتغطي ملامح وجهه.. ونادى صديقه بصوت متهدِّج بالبكاء، ولكن نداءَه ذهب أدراجَ روائح الغرفة الطبية بأجهزتها وأدويتها وموادِّها المختلفة.
خرج منكسراً وهو يشعر أن حاجزاً كبيراً قد حال بينه وبين صديقه، ونزل إلى سيارته واهن القُوى، وقد أحسَّ أن مظاهرَ اليأس من الحياة قد وصلت من قلبه إلى مكامن الرَّجاء، وإنه لفي تلك الحالة البائسة، إذْ به يسمع صوت مذياع يشقُّ السكون ينطلق من إحدى السيارات الواقفة بتلاوة قارئ «يرتِّل» {إنَّهٍ لا يّيًأّسٍ مٌن رَّوًحٌ اللهٌ إلاَّ القّوًمٍ الكّافٌرٍونّ} وأحسَّ بالطُّمأنينة تسري في قلبه، وقد أيقظته الآية من سبات اليأس والقنوط ووضع رأسه على مِقْوَدِ سيارته وهو يقول: كم نغفل نحن البشر عن حقيقة الحياة الدنيا التي نلهث فيها، مستسلمين لشواغلها، ملاحقين لسرابها الذي لا يُروي قلب ظامئ، وكم نظلم أنفسنا بانصرافنا عن موقع العبرة والموعظة التي تجري أمامنا كلَّ يوم.
إشارة:
كم جديدٍ نذوب شوقاً إليه
نتناسى بأنه سوف يَبْلَى
كلَّما أنزل المسافر رَحْلاً
شدَّ سعياً إلى أمانيه رَحْلاَ
|
|