Monday 4th august,2003 11267العدد الأثنين 6 ,جمادى الثانية 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

المدينة الما بعد حداثية المدينة الما بعد حداثية
د. عبدالرحمن الحبيب

في لندن التي أكتب من قُربها، لا تحسُّ غربة حقيقية كائناً من كنت.. فثمة أحياء للعرب أو الصينيين أو اللاتينيين.. إلخ.. هناك في شوارع العرب تجد أغلب الصحف العربية حتى المحلية جداً.. وتجد الكتب، الملابس، المأكولات والمشروبات، السلوكيات.. وتجد المساجد والقيم والعادات والطوائف والأحزاب.. حتى أنه يمكنك الاكتفاء باللغة العربية دون أن تواجه مشكلة في نمط حياتك.. مثلاً أعرف عربياً في حي عربي، يعيش منذ ثلاث عشرة سنة ومتزوجاً من إنجليزية ولا يتقن مبادئ اللغة الإنجليزية.. إنه ببساطة لا يحتاجها كثيراً في ذاك الحي/ المدينة الما بعد حداثية!..
وثمة طرفة إنجليزية تقول إن بريطانيا يلزمها سفارة بريطانية في لندن!
أكتب هذه المقالة إثر نشري مؤخراً لمقالتين عن ما بعد الحداثة حيث انتقدني البعض مشكوراً.. ومن أهم ما انتقدوه هو عدم قدرتي على توضيح ما بعد الحداثة. وفشلي هذا - إن صح - أزعم إمكانية تخطيه من خلال وصف المدينة الما بعد حداثية منتهزاً فرصة موسم السفر خلال هذا الصيف وما يحمله المسافرون من انطباعات عن المدن العالمية الكبرى
فما بعد الحداثة تتضح في عمران المدن الكبرى أكثر من أي مجال آخر، لأن ما بعد الحداثة هي حالة مدينية في المقام الأول.. أو كما قال أحد المفكرين الأمريكيين الذي لم يجد تعريفاً مناسباً لما بعد الحداثة سوى القول أنها هي المدن الأمريكية... أو أن ما بعد الحداثة هي أمريكا! في حين ذهب كثير من دعاة ما بعد الحداثة إلى عدم إمكانية تعريفها باعتبارها مفهوماً يكتنفه الغموض: «لأن مفهوم ما بعد الحداثة متناقض من داخله.. فهو ليس شيئاً ثابتاً يمكن صياغته وتجميده ومن ثم الرجوع إليه عند الحاجة لاستعماله». (جيمسون).
المدينة الحديثة تتميز بفضاء مفكك وبتغير حاد متنوع ومتسارع، والتصميم، العمراني الجديد الذي نراه في أغلب مدن العالم الحديثة يشمل خليطاً من المدارس الفنية من شعبية ونخبوية، قديمة وحديثة، منهجية وعشوائية.. جماعية وفردية.، والتصاميم الهندسية في شوارع هذه المدن أو مبانيها تنتمي لأساليب حضارية مختلفة وفقاً لذائقة شديدة التنوع وغير مستقرة.. وعلى خلاف ما بعد الحداثة نجد المعمار والتصميم الحداثي ينبني على رؤية عقلانية جمالياً وتصميم ينتمي لمدرسة أو أفق حضاري معين، كمثل طرز: بيزنطية، رومانية، إسلامية، أندلسية، فكتورية، يا بانية.. إلخ أو مدارس حديثة واقعية لها أطرها التي تلتزم بشروط جمالية وهندسية محددة سلفاً.
في المدينة الما بعد حداثية تتواقت الأزمنة وتتجاوز الأمكنة وتتداخل الأمزجة، وتمتزج المدارس المنهجية مع الفوضى والعبث الفني.. ففي أية مدينة عالمية كبرى ترى منازل تنتمي لعصور قديمة قرب أحدث وأغرب الطرز المعمارية المصممة بعشوائية تخضع لذائقة المصمم المنفلتة من عقال التصاميم الجاهزة أو التنظيرات الجمالية.. وربما تكون ذائقة المصمم مجرد خطرة شخصية جريئة لا علاقة لها بأي مفهوم مسبق. فقد تدخل مبنى حديثاً ضخماً يضم طرزاً شتى من إرث الشعوب وحضاراتها وممتزجة مع طرز هندسية مصطنعة جميلة و/ أو بشعة.. وتجد مطعماً شرقياً تفوح منه روائح التوابل المعتقة قرب مطعم للوجبات السريعة.. وقد يقابلهما مطعم كلاسيكي فخم بجواره كشك فطائر.. أو ببساطة تدخل مطعماً يضم مختلف المأكولات الشرقية والغربية.. الحديثة والقديمة.. الخفيفة والثقيلة.. ومن جانب آخر ترى مسرحاً كلاسيكياً أو مركزاً فنياً عريقاً جاداً قرب تجمع خيمي لأحداث الفرق الموسيقية المنفلتة التي تتمازج بها ألحان من شتى الأقطار والأمزجة. وقد تحضر مهرجاناً يضم فنانين ولاعبين من شتى أقطار العالم ومختلف الخبرات الحضارية ممتزجاً مع موسيقى يختلط بها شمال وجنوب ونادر ومعتاد ومعقد وبدائي...
.. أناس من مختلف الجنسيات والأديان والثقافات والطبقات والألوان والأعمار تذرع شوارع المدينة تعمل في النهار وآخرون في الليل.. وهناك من يتسكع وآخرون سيّاح.. وثمة مشردون مسحوقون.. ثمة لاجئون شرعيون وغير شرعيين.. وثمة دعاة يرفعون شعاراتهم للتغيير المتطرف أو السلمي.. صحف وكتب ملقاة على قارعة الرصيف منها ما يوصف بأنها جادة ملاصقة لما يوصف بأنها هابطة.. قنوات فضائية من شتى أصقاع العالم.. مقاهي إنترنت تحوي كافة ثقافات البشر.. إلخ.. إنها القرية العالمية حسب «جيكنز»، ومدينة مفتوحة للتنوع بلا عُقد.. هنا تتجاوز الأفكار والأساليب والجماليات قديمها وحديثها.. سطحيها وعميقها.. ويمتزج الشكل بالمضمون، والطارئ بالمزمن، والمنهجي بالعشوائي.. وأي شيء بكل شيء.. إنها فوضى وجمال وأزمة ما بعد الحداثة!.. فمعيار الجودة والرداءة لم يعد ثابتاً وكذلك الذائقة.. وكل عمل إبداعي أصبح يخضع جمالياً لانسجامه الداخلي وصدقه الفني الخاص به بغض النظر عن المدارس النقدية التي يُفترض بها أن تقوم بدور تربوي فني وليس دوراً توجيهياً أو تصحيحياً للعمل الإبداعي!!هل أختم قولي عن المدينة الما بعد حداثية أم عن ما بعد الحداثة ذاتها؟ الأمر سيان.. فالمدينة الحديثة هي جوهر ما بعد الحداثة.. وما بعد الحداثة ترحب بالأثنيات وبالاختلافات الثقافية والذوقية والجمالية باعتبارها تنوعاً حيوياً ممتعاً وطبيعياً وضروريا.. على خلاف الحداثة التي تضع حواجز للأجود والجيد والمتوسط والرديء مميزة بين الأنواع الفكرية والجمالية عبر منهج نقدي صارم يدعي العلمية و/ أو الموضوعية.. بينما يرى الما بعد حداثيين أن الحداثة مثل التقليدية منحازة بالضرورة لمفاهيم مسبقة ومناهج ضيقة تتنافر مع التعددية والتنوع والاختلاف الطبيعي الموجود في حياتنا.. في مدينة ما بعد الحداثة يُفتقد الانحياز للأكثرية، ففيها يبدو الجميع ينتمون لأقليات.. والجميع مُرحب بهم.. رغم ما في ذلك من اغتراب واستلاب!.. إنها مفارقات مدينة ما بعد الحداثة.. مدينة المستقبل.

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved