عشق المرء لمسقط رأسه، ومرتع صباه، وملعب شبابه أمر يكاد يكون عاماً سائداً بين البشر جميعاً، كيف لا وهو غالباً ما يجد في مكان الطفولة والصبا والشباب دفء الحضن ومتعة العطف في كهولته ومشيبه؟
وكلما كان المكان جميلاً في مظهره، رائعاً في مخبره، غنياً في عطائه المعنوي ازداد العشق عمقاً، وتجدد تفتحاً.
وقد شاء الله - بفضله وكرمه - أن يكون مسقط رأس كاتب هذه السطور ومرتع صباه، وملعب شبابه، فيحاء ساحرة المظهر، رائعة المخبر، غنية في عطائها المعنوي. وهي ذات ماض مجيد زاهر، وذات حاضر متفتح ناضر. ومع أن ماضيها السياسي المزدهر مجداً وفخاراً يغري بالكتابة عنه والإشارة إلى شيء من عبقه فإن ملامحه معروفة لدى الكثيرين، وبخاصة من قرأوا تاريخ وطننا الكبير وتأملوا سجله الحافل بالأحداث. ولعل مما تجدر الإشارة إليه باختصار قد يكون مخلاً إلى حد ما، جمال جغرافيتها، وما حققه علماء الشريعة فيها من تميز بين علماء كثيرين من أهل نجد، وما حفل به مجتمعها من انفتاح وقابلية للتطور في زمن ندر فيه مثل ذلك الانفتاح وتلك القابلية.
طبيعة جغرافية الفيحاء الجميلة يشاهدها كل من زار هذه العروس الراقدة بين جالٍ جميل، وبحر من رمل أجمل، والتي تغطي ربوعها مزارع النخيل بأنواعها المختلفة المشهورة، وأشجار العنب والتين وغيرهما من الفواكه، إضافة الى الخضروات المتنوعة، على أن من أحلى صفاتها أنه لا يفصل بين منازلها المحاط أكثرها بالنخيل وبين أشجار الغضى المنتشرة فوق تلال رمالها إلا بضعة أميال. وكم عبر الشعراء عن عشقهم لمفاتنها، وتغنوا بسحر جمالها، وكاتب هذه السطور يشارك هؤلاء الشعراء عشقهم لتلك المفاتن، وتغنيهم بذلك السحر الجميل، لكنه يعلم عدم قدرته على مجاراتهم في تصوير هذا وذاك. وكان مما قاله مخاطباً زميله وصديقه العزيز أبا بدر، حمد القاضي:
ومسقط رأسك اشتهرت رباها
كأجمل ما رأى العشاق طرا
أظنك عاشقاً مثلي.. عليها
تشوف منائراً بنيت بمصرا
وعهدي بالغضى مهواك ربعاً
تجدد فيه لابن الريب ذكرا
إذا ما الشمس ودعت البرايا
لتأخذ في المدى الغربي خدرا
وخلَّف رونق الشفق المولِّي
سدول الليل للآكام سترا
يطيب على «المصفَّر» شبُّ نارٍ
توهجها يظل سناه فجرا
ويحلو السامري أصيل فنٍّ
لمن عرف الهوى عصراً فعصرا
وهل من فتنة الفيحاء بدٌّ
عروساً تخلب الألباب سحرا؟
تتيه برملها الذهبي غرباً
وشرقاً تزدهي بجمال «صفرا»
وكم هامت بطلعتها قلوبٌ
فخطت بوحها شعراً ونثرا
ولست مفصِّلاً ما أبدعته
مفاتنها فأنت بهنَّ أدرى
وكنت قد حاولت التعبير عن مشاعري نحو الفيحاء عند عودتي من دراستي في سكتلندا قبل ثلاثين عاماً بالقول:
لواعج الشوق كم كانت تؤرّقني
وكامن الوجد كم أذكى دمي لهبا
من كان مثلي بالفيحا تعلُّقه
فلا غرابة إن عانى ولا عجبا
أحلى العرائس ما من عاشق لمحت
عيناه فتنتها إلا لها خطبا
تنام ما بين جالٍ كله شممٌ
وبين كثبان رملٍ كلهن إبا
وإن تأملت أزياء تتيه بها
رأيت من بينها البرحيَّ والعنبا
أما تميز علماء الدين فيها فتكفي في ذكره الإشارة إلى الشيخ عبدالله بن عضيب، الذي تولى قضاءها من عام 1110هـ إلى وفاته سنة 1161هـ. وكان من تميزه - إضافة إلى تأليفه في الفقه - أنه اختصر القاموس المحيط في اللغة، وكتب شعراً، بل إنه نسخ شرح التهذيب في المنطق، وكتب هوامش عليه.
ومن علمائها الشيخ عبدالله بن عائض، الذي درس في مكة وجدة والقاهرة، وأتقن علوم العربية؛ نحواً وصرفاً، كما كتب رحلة مسجوعة تخللها قطع شعرية من نظمه وصف فيها رحلته للحج. ومن علمائها الشيخ صالح بن عثمان القاضي، الذي درس في الأزهر ومكة، وتولَّى قضاء عنيزة من سنة 1323هـ إلى وفاته عام 1351هـ. وكان من أمهر القضاة، علماً وفراسة، ومن تميزه أنه كتب منظومة في الفلك تبلغ ثلاث مئة بيت، وأنه كان واسع الأفق قوياً في الحق.
ولعل قمة التميز من علماء الفيحاء، معرفة بأحكام الشرع وقضايا تطور العصر الشيخ عبدالرحمن السعدي، الذي يدرك تميزه كل من قرأ كتبه في علوم الدين المختلفة، والذي لم يكن يضاهيه عالم من منطقته في تعامله السمح النافع مع أفراد مجتمعه، صغيرهم وكبيرهم، غنيهم وفقيرهم، وفي تفتحه على المستجدات العصرية. ومن ذلك أنه أفتى بجواز نقل الأعضاء قبل أن تتم أي عملية نقل لها، أما تلميذه الشيخ محمد العثيمين فيعرف الكثيرون نفع الله بعلمه الغزير، تدريساً وتأليفاً وإفتاء ويعرفون كيف امتدت آثار ذلك العلم إلى آفاق المعمورة.ومما زاد مجتمع الفيحاء تفتحاً ولع أفراده منذ قرون بالسفر خارج الجزيرة العربية حيث أسس أعداد منهم بيوتات تجارية في مناطق متعددة من العالم، واجتمعت تلك العوامل لتخلق نسيجاً اجتماعياً أدرك أبعاده من زار هذه البلدة الجميلة من العرب وغيرهم.
وماذا عن تفتُّح الحاضر؟
ذلك ما كان من ماضي الفيحاء، وطناً ومجتمعاً، وحاضرها الناضر المتفتح يبدو واضح المعالم، أما نهضتها العمرانية، وبخاصة الزراعية، فمشهدها يغني عن الإشارة إليها. على أن مما يسعد المرء أن يشير إليه أنها رزقت بأخيار نذروا أنفسهم الكريمة للقيام بكل ما ينفع ويسر مواطنيها وزائريها.ومما يذكر فيشكر لهم جزيل الشكر ما اعتادوا على القيام به في إجازة الربيع من نشاط مخيمي تتخلله التسلية اللطيفة والتثقيف المتنوع. أما جهودهم في مجال التنشيط السياحي صيفاً فأعظم من الوصف. وما قاموا به هذا العام بالذات روعة في كل جوانبه. فهنيئاً لهم بامتلاك النفوس الكريمة البارة التي يمتلكونها، وهنيئاً بهم لعروس فتنوا بسحر جمالها، فصمموا على أن يجعلوا أيامها دائماً أيام عرس بهيجة سارة.