تحت عنوان: «محمد شكري: أخشى أن يكون المرض أخطأ حين اختار معركته معي.. وسيندم»، كتب الأستاذ طلحة جبريل في جريدة الشرق الأوسط؛ السبت 16/3/1424هـ؛ 17/5/2003م، أن الكاتب المغربي محمد شكري «68 عاماً» دخل المستشفى العسكري في الرباط لتلقي حصة أخرى من العلاج، وأنه ليس فقط يواجه المرض بروح معنوية عالية وإنما يسخر منه أيضاً، ونقل عنه عدداً من العبارات القوية في مجال تحديه للمرض، مثل: «من المستحسن بعض الأحيان أن يمرض الناس حتى يكتشفوا المرض» و«هناك معركة يتواجه فيها العلاج وشكري مع المرض.. وسنرى من الذي سينتصر.. المرض لا يعرف شكري» و«أظن أن المرض أخطأ عندما اختار شكري، مؤكَّد أنه سيندم.. ربما اعتقد أني دجاجة بشرية، أنا لست كذلك».
شدّني كثيراً هذا الإصرار على تحدي المرض، وأعادني إلى قصة طريفة ذات صلة بموضوع التحدي - وليس بالأشخاص -، ولكنه تحدٍ من نوع آخر، رواها المفكر الإسلامي الأستاذ الدكتور رشدي فكّار، رحمه الله، على هامش محاضرة له تحت عنوان: «حوار الحضارات» (أشرت لها في مقالة سابقة»، والقصة تختص بالمفكر الملحد المعروف «هربرت سبنسر»، الذي أراد في بداية نظريته - وهو شاب - أن ينهي خرافة الموت، بأنه سيكتشف قانون الكون ويريح البشر من هذا الإله الذي دائماً يخشونه لأنه يُميت، ووضع نظريات وصلت إلى خمسين مجلداً؛ المبادئ الأساسية لقانون الكون، المبادئ البيولوجية، المبادئ السيكولوجية، وبدأ يضع التنظير، وحينا وصل إلى سن معينة شعر ببداية الكارثة؛ شعر أن الطريق مسدود، وأن التحدي غير مجدٍ، فبدأ يقول نكتفي بتحليل الموت، فبدأ يضع قرار الموت وقال الموت موتان، ثم بعد هذا بدأ يتراجع وقال أنا شخصياً أعتقد أن المعارف نسبية، ووضع دراسة مطولة عن نسبية المعرفة لدى الإنسان، ثم في النهاية كتب وصية طلب فيها حرق جثته، ولكن هذه الوصية لم تنفذ بعد وفاته في 3 ديسمبر 1903م.
وواصل الدكتور فكّار سرد القصة بأن حياة «سبنسر» كانت غريبة، فهو إنسان حكم عليه مرضياً أن يموت وعمره 37 سنة، وحينما جاءه الطبيب ليعالجه، وكان عنده إغماء وأزمة، قال الطبيب: «إنه مات»، أي تقريباً مات، وكان «سبنسر» وقتها ما زال يسمع الكلام، وهذه كانت بداية تحديه ومواجهته لقانون الكون، فقال لشقيقته بعد أن خرج الطبيب: ماذا قال لك الطبيب؟ قالت هل كنت تسمع؟ قال نعم، حينما يأتي غداً ليشارك في جنازتي، قولي له إن «هربرت» قرر أن يعيش حتى يدفنك، واسأليه إذا كان له ابن - وفعلاً كان له ابن - قال: وقولي له أيضاً أني سأشهد دفن ابنه، وهذا قرار نهائي مني، وفي هذه الليلة بدأ يضع نظرية التطور يعلن فيها انتهاء الموت، والغريب أنه مُكّن ليموت وعمره 83 عاما، يعني بدلاً من 37 عاماً عاش 83 عاماً، وهو صاحب قضية اكتشاف فائض الطاقة في الجهاز العصبي المستقل؛ أخطر النظريات؛ يعني أن الإنسان إذا أملى على نفسه التراجع وأنه انتهى سينتهي، أما إذا قرر أن يواجه فسوف يستعيد الغدد الصماء، والقوة المضادة في جسده، والمقاومة تستطيع أن تستعيد كل المواقع وتنتصر في المواجهات مع البكتيريا والأمراض والاضطرابات، فضارب على هذه الناحية كرجل بيولوجي، ولكنه شعر في الأيام الأخيرة من عمره، وفي الليلة الأخيرة بالذات أن القضية اقتربت، - والدكتور فكّار لا يتفق مع قول التطوريين من أتباع «سبنسر» أن ضربة الهواء التي أصابته حين فتح النافذة هي التي جعلته يموت بعد ساعتين، مؤكداً أن «سبنسر» رفع الراية البيضاء - فاستدعى كاتبته، وطلب منها أن تعيد قراءة الوصية، لأنه كان ينام عشر دقائق يأخذ منوماً فهو لا يستطيع النوم دون مخدر، كان يستيقظ فيملي فتكتب الكاتبة ثم يستريح ربع ساعة، ثم مرة أخرى، وهكذا، قال لها في تلك الليلة: ستنتهي المشكلة بيني وبينك وتستريحين مني، سأملي عليك فقط إعادة صياغة الوصية، أنتِ ذهبتِ بعد الظهر من الفندق، وأنا اختليت مع نفسي وقررت أن أذهب إلى دورة المياه، ونظرت في المرآة لأرى وجهي فإذا بي أمام إنسان أحمق، فابتعدت عن المرآة، وقررت أن أتحامل على نفسي لأصل إلى النافذة، وفتحت النافذة، فإذا بي أرى الضباب أمامي يتحدى هربرت سبنسر، لقد بهرني هذا الكون، وآلمني عجزي عن معرفة كنهه، هنا تُحرق جثتي لكي تكون دليلاً على هزيمتي في التحدي ويُلقى برمادها في هذا الفراغ الكوني، فهذا عالم نزيه.
وبالعودة إلى الأستاذ محمد شكري - الذي لم يكن قد تعلم القراءة والكتابة حتى العشرين من عمره - نجد أن انتهى في عبارته الأخيرة إلى القول: «لا أعرف من الذي يضحك ويسخر من الآخر أنا أم المرض»، وأشار الأستاذ طلحة إلى أن «شكرى» استطاع الاستجابة للعلاج بنسبة 90% حسب قول الأطباء الذين فوجئوا بذلك، وأنه يخوض معركته مع المرض بلا هوادة.
الجدير بالذكر هنا أن «شكري» يعد من الأدباء المغاربة، وله العديد من الأعمال التي اختلف حولها النقاد، ولعل أكثرها شهرة على المستويين العربي والعالمي روايته المعروفة «الخبز الحافي» وهي عبارة عن سيرة ذا تية روائية، عرض فيها طفولته وصباه وجزءاً من بدايات شبابه، وقوبلت هذه الرواية في أوروبا «إسبانيا على وجه التحديد» بالكثير من عبارات الإطراء والإعجاب، ولكنها مغربياً وعربياً وإسلامياً لم تكن مقبولة، وقد ظهر ذلك واضحاً في كتابات البعض - بل الكثير - ممن انتقدوا سلوكه وأسلوبه، فهناك على سبيل المثال الأستاذ إبراهيم بن عبدالله السماري، الذي كتب في «الجزيرة» بتاريخ 14/1/1422هـ، تحت عنوان: «شيوخ القمرا والخبز الحافي» قائلاً: «الخبز الحافي» وصفها كثير من النقاد والقراء بأنها أجرأ سيرة ذاتية عربية مكتوبة ومنشورة، وطبعت بعدة لغات أوروبية قبل أن تنشر باللغة العربية!!
أما الأستاذ عصام حاج علي، فقد وضع «شكري» في قائمة أدباء الفرانكو الذين كتبوا عن أدق السلبيات في مجتمعاتهم ليقدموها للغرب عربون وفاء لنيل الرضا والقبول والفوز مستقبلاً بجوائز وهمية مثل «غونكور الفرنسية» أو «نوبل».
وأما الرواية الثانية لشكري في الترتيب من حيث الشهرة فهي «زمن الأخطاء»، وجاءت بعد حوالي ثلاثين عاماً من «الخبز الحافي»، وتمثل الجزء الآخر المكمل لسيرته الذاتية، وقد قوبلت أيضاً بالنقد الشديد مغربياً وعربياً وإسلامياً، وسأقتبس جزءاً من فقرة واحدة فقط مما قرأت في «التجديد» (وهي جريدة مغربية) بتاريخ 19/3/1424هـ، للأستاذ ناصر الدين خالد، حيث قال: «لست منزعجاً لأن شكري التقط وقائع من حياته بشكل فوتوغرافي فاضح، ولكني قلق جداً لأنني أهدرت وقتي ومالي في قراءة عمل أشعرني بالخزي والغثيان.
علماً بأن الرواية صدرت في المغرب ولم ترفضها الرقابة المغربية، ربما لأن «شكري» أصبح ذا شهرة عالمية، أو ربما لأن كتابته فيها كانت أقل صلفاً وفجاجة من «الخبز الحافي»، إلا أن أسلوبه لم يتغير؛ إذ سرد فيها أدق تفاصيل حياته ابتداء من فترة المراهقة إلى سن الرشد، وتطرق إلى معاناته وما أصابه من فقر وبؤس، والأمراض الكثيرة التي تعرض لها، وذلك البعض من الأمراض ما زال يلازمه حتى يومه هذا.
|