Sunday 3rd august,2003 11266العدد الأحد 5 ,جمادى الثانية 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

دفق قلم دفق قلم
الضَّباب
عبدالرحمن صالح العشماوي

هذه الطبيعة الخلابة التي أودع الله فيها من أسرار الجمال ما يدخل السعادة إلى القلوب، ويحرّك المشاعر، وينمّي حسّ الجمال في نفس الإنسان، ويرقى بذوقه، وفكره، ويزيد من إيمانه، هذه الطبيعة ماتزال مصدر إلهام لكلِّ من يُحسن تأمل مظاهر الجمال، ويشعر بسحره وروعته، إن وقوفك أمام شجرة متفرّعة الأغصان، نضرة الاوراق، ريّانة الجذع يمنحك من الإحساس بلذة الجمال، ويملأ قلبك من الإيمان بذي العزة والجلال، مثل ما يمنحك وقوفك امام شجرة تعرّت اغصانها من أوراقها، وتغضن أديم جذعها، ورسمت التجاعيد عليه من الخطوط ما يُثير الشعور بنوعٍ آخر من لذة الجمال، وقدرة العظيم المتعال.
الطبيعة لوحة متجددة أودع الله سبحانه وتعالى فيها من مظاهر الجمال، وأسراره ما يتجدد، ويُثير مشاعر المتأمّلين.
كنت أتامّل زرقة السماء النّاصعة، التي تظهر من بين مواكب الغيوم البيضاء الناصعة، وبعض كتل السحب السوداء الداكنة التي رسم الأصيل على اطرافها من حُمرته «الذهبيّة» خيطاً بديعاً جعلها لوحةً بارعة الجمال، ياله من منظر يثير كوامن النفس، ويفتح ابواب الخيال بصورة قلَّ أن يجد لها الإنسان نظيراً.
كنت اتأمّل ذلك على قمة شامخة من قمم جبال السروات في منطقة الباحة، تسمح لي أن ارى تلك الشّعاب، والأودية الساحقة التي تتصل بها سهول تهامة الممتدة امتداداً عجيباً لا يُوقفه إلا مياه البحر الاحمر هناك حيث تشكّل رمال الشاطىء لوحةً جميلة من لوحات هذا الكون العجيب، وكنت - في حينها - انقّل طرفي بين السماء بزرقتها والغيوم بلونيها الأبيض الناصع، والاسود الداكن، وبين الجبال الشامخة التي تلامس بهامتها قطعاً من السحاب، وبين الشمس في وقت الاصيل وهي تحاول أن تطلَّ علينا من بين تلك المواكب التي تملأ السماء من السحب المتراكمة، وبين أشجار الطلح والعرعر التي تحمل من ذكريات الماضي ما لو تحدثت به لاشجت قلوباً، وأبكت عيوناً، واثارت مشاعر، والهبت نيران شوقٍ لا تخبو، كنتُ اتأمّل هذه اللوحات الطبيعية العجيبة، التي لا يعكرها إلا اصوات السيارات، وروائح عوادمها المزعجة في هذه الاجواء البديعة، السيّارات التي تحرم الإنسان من نعمة مخالطة الطبيعة، ومجالستها، وتأمل ما فيها من الجمال، واذا بي ارى مواكب بيضاء قادمة من تهامة من جهة مدينة «المخواة» التابعة لمنطقة الباحة، كانت تلك المواكب البيضاء تملأ السهول، وتركض كما تركض الخيول، - سبحان الله العظيم - منظراً من مناظر هذه الطبيعة الخلابة تعجز عنه الكلمات وصفاً، والخيال استيعاباً، ركض بديع تراه رأي العين، فيشعرك بأنك تعيش في عالم آخر، غير عالم البشر.
وماهي إلا دقائق معدودات حتى صعدت تلك المواكب البيضاء من سهول تهامة متسلّقة الجبال السامقة، مالئةً الاودية والشعاب، متربعة على قمم الجبال، لتنطلق منها بسرعة الى اجواء القرى والمدن، ثم لتغمر كل مكان حتى تحجب الرؤية، ناثرة من نداها ورذاذها ما ينعش النفوس، ويشرح الصدور، ويوقظ احلام الاشجار، وآمال الازهار.
يالها من مواكب بيضاء ساحرة باهرة، تظل تركض وتنتشر حتى اذا حجبت الرؤية، وملأت الاجواء، وساحت في الطرقات، اخذت تنجلي حينما هبّت عليها الرياح، ثم تنقشع تماماً، وتتوزّع في قطع صغيرة لا تلبث الا قليلاً ثم تتلاشى، حيث تبرز الجبال والاودية والشعاب والاشجار اكثر بهاءً ورواءً، ويبدو على الارض الانتعاش، وتظهر المباني المتناثرة بأحجامها والوانها واشكالها المختلفة، وكأنها خرجت من نهرٍ غسلت بمائه ما علق بها من الغبار.
انّه الضباب، يقدم عروضه الساحرة بين حين وآخر بصورة متقنة تثير الاعجاب، فسبحان من اودع في هذا الكون كنوز الجمال.
إشارة:


هذا ضياء الشمس، هذا الضحى
هل أمنع البلبل أنْ يصدحا

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved