ما أكثر ما فُطر عليه الإنسان، وما جُبلت عليه نفسه الضعيفة بكل تلوّن وتغيّر في دنياه، بل ما أكثر ما يسعى إليه ويحفد خلف التغيّر والتبدّل، لا يحب الركود في مستقر واحد، ولا الركون إلى زاوية جامدة، ولو كانت هذه جنة الله في أرضه.
يخيل إليّ أن سائلاً نمى إلى عقله سؤال: ما يعنيه حديثك السالف بالميلاد؟ وما علاقة التغير والتحول بصنوف الدهر وألوان الحياة بالميلاد؟
سؤال مقبول من الناحية العقلية، فما يعنيه التبدل والتغير أمام الميلاد وما هي أوجه الشبه بينهما، ربما أخطأت في العنوان أو أني غير منتق جيد للعناوين، فالعنوان دالٌّ ماهر في جلب القراء، يجذبهم نحو ربيع الحروف، ومقتضى المفهوم.
بيد أن السؤال قاصر من الناحية النفسية، لأن الميلاد نوع من أنواع التغيير النفسي والعاطفي وتبدل الأحول وتغير المَحال، فيسعى إليه الناس أو يأتيهم على حين غِرة، أو يُكرهون عليه جبراً وقسراً.
لكن الميلاد في طبائع البشر شيء جميل، وثوب أصيل يحب أن يرفل به كل إنسان، بل كلٌّ يبتغيه ويرمي إليه، وهناك ميلاد أو مواليد عدة، في حياة الإنسان، مختزل داخل قَدَرِه لا يدريه، أو يدري عنه، وهو نعمة لا نقمة وفضيلة لا رذيلة وهو سنا يضيء في سماء المتنعم به، والمتفضل منه.
فميلاد الطفل، أبواه يسعدان به أيما سعادة بل يتهللان ويُسرّان من لحظة علمهما بأنه آتٍ من قبل تسعة أشهر، ثم بعد مجيئه يبقى شمعة تتراقص أمام عيني أبويه، فهو من أكبادهما قطعة ومن دمهما مضغة، ومن نورهما ضياء، فميلاده سراج في قلبيهما، فحتى لو كبر وشاب سيبقى ذلك المولود الصغير الذي هو لهما ومنهما.
فكما قلت آنفاً إن المواليد كثيرة في حياة المرء فهناك ميلاد كتاب كد فيه وجهد كاتبه وجمع به وحوى ما حوى، وسهد الليالي في تحبير أوراقه، وجمع أفكاره، وتصنيف أرائه، واعتراضه، وتفنيد كل ما لا يروق له، ويتمم به قناعاته، ثم يولد هذا الكتاب، ممسكاً دفتيه، ناظراً إليه بعين البِشر والسعادة.
والطالب الذي جد واجتهد في تحصيل العلم النافع، سهر تحت القمر في حفظ آي من كتاب ربه، أو قصيدة لشاعر، أو مواقع بلاد، أو تواريخ فتوحات، أو ما يطرح ويكسر، وما يرفع ويخفض، أو ما يكره على مواد وكتب لا قِبَل له بها ولا ميول لقلبه بها ولكن الشهادة والمستقبل متعلقان بإتقان فصولها، وحفظ منظومها ومنثورها، ثم تزف إليه تلك العروس المبرْوَزة والمطرّزة بنقوش جميلة تحمل معها مستقبله وميلاد حياته الجديدة.
وميلاد جسد بعد مرض وضنى، فحين يمس العظام أو العضل أو حشاشات القلب أو مضغة من مضغ الجسد الباطنية نصبٌ، ثم يبرأ منها ويُشفى، تقول نفسه: حييت من جديد ونجيت من أضراس المنايا، فعودتي إلى الحياة هي ميلاد جديد.
وصاحب تجارب في معمل أو مختبر، يفني من أيامه وماله الكثير، لكي يصل إلى ميلاد اختراع يبرع به، فمنهم من يقضي نحبه قبل أن يصل إلى ما يريد، ومنهم من يطوي الأيام في معمله والسنين، يهلك النسل ببعده عنهم، ويسقى الحرث الذي بين يديه، فحين ينتهي ويولد الاختراع تولد معه نفسه وروحه.
والمزارع الذي يحرث ويبذر، ويسقي ثم ينتظر، حتى يقوى الزرع، وينضج الثمر، ثم يرى بعينيه المتقذيتين، ميلاد زرع وميلاد قوت له وكفل يهنأ به ولعياله، وأسرته.
والشاعر حين ينفجر من قريحته ينبوع قصيدة، اضطربت في باطنه، وأخلبت عقلة ثم نسجها على قرطاس من أحرف يستعذبها في كل بيت، ويطرب مع أجراسها وتناغمها، ثم يقلبها بعينيه كأنها طفلة خود رقيق، إنها ميلاد قصيدة ثمينة على صاحبها.
وينسحب على هذا ميلاد قصة أو ميلاد مقالة أو ميلاد فصاحة وبلاغة، لأنه ميلاد أفكار وميلاد عقل منثور على شكل حروف، ففيه الفخر ولا ضير، لأن المولود لا يأتي إلاّ بخير فهو جديد ومجدد للروح إن كان ذا روح، ومجدد للأفكار أن كان ذا فكر ومجدد للحروف إن كان صاحب حرف وبيان، فالسعادة والحبور تامان لا مناص، والابتهاج والتهلل به حق ومستحق لصاحبه، فمَن قصد المنى وسار نحو القمم، ومعه في راحلته زادٌ من الهمم فلن يقف إلا وهو معتلٍ تلك القمم، غارساً بها بيرقاً تخفق به رياح قلبه، فإذن يستحق أن يقال له مبارك على مولودك في ابنك، أو كتابك، أو فكرك، أو قصيدك، أو مقالتك، أو اختراعك، أو زرعك، أو شهادتك.
***
بعد كل هذا التجدد والابتهاج والانبساط مما يشعر به صاحب المولود أنه جزء منه أو عاقبة حميدة بما كد به وتعب، هل تدوم لذة السعادة ويبقى ذلك المولود كما كان روحاً منبعثةً تملأ الدنا بريقاً وزهواً؟ أعتقد خلاف ذلك لأن الطفل الصغير ذاك النور، إن كان خارجاً عن طوع أبويه، سيكبر ويختفي ويخبو، ويصير حملاً ثقيلاً عليهما، وعدوّاً ظاهراً لهما، حينئذٍ يندمان يوم مولده ذاك فقد ثكلاه حينها.وذلك الصحيح الذي برأ من كمده ومرضه ربما لاقته دنياه بوجه عبوس ويدٍ ضاربة ظالمة فيتمنى لو كان على فراشه الأول، ففيه وجد الراحة والبعد عن ضجيج الحياة.
والشاعر الذي نظم قصيدة كانت مولد بؤس له حين اقتادته إلى سجن أسود لا يرى به كفه، و سيف أبتر مسلط على عنقه، فصارت موتاً بعد ميلاد.
والطالب الذي نال شهادة عالية يظن بنفسه أنه أعلم وأرفع درجات المتعلمين، ودليل الجاهلين، ومنقذ الأمة من دركات الضلال والبوار، فيبدأ بعرض شهادته أمام كل وجه، وعلى كل طاولة وفي كل دائرة، تجده يحمل كومة من الأضابير، يتذلل لهذا ويقبّل يد ذاك، ويوعد بوظيفة ثم لا يرى إلاّ سراباً في قفار موحشة، فلا عاد عليه مولد شهادته بخير، وإنما اجتلب اليأس والقنوط، فلو عمل صانعاً أو راعياً لكان خيراً له.
أما المزارع الذي أسقى الأرض، وأنبت الزرع، وقَلَب طينها ثمراً طيباً، حين يخرج الثمر فاسداً، والكلأ مصفراً باهتاً، فما حال الفلاح وما حال أبنائه وأطفاله، لقد اجترت عليه تلك الزراعة الموت والفقر.
وصاحب الاختراع، الذي أفنى من عمره وماله ما لم يفنه عالم غيره، بعد أن ولد بين يديه اختراعه، ورَفَع به شأنهُ، وأعلى قدره، وفتنوا به العامة من الناس والخاصة، وبعد أن تكشّف عن أمره أصبح كالزبد لا ينفع الناس، ومهلكة وباساً، وصاحبه صار من أهل الأهواس، طاش عقله بعد الميلاد من الرأس.
والكاتب الذي ألّف كتاباً لم يكن كما أراده مجتمعه أو بلده، وأعتقد ما لا يعتقده العقلاء ولا يدين به الفضلاء، خارجاً به عن آدابه أو دينه أو فجوراً يبتغي منه الفجور، فجاء بأفكار ظن أنها جديدة ونادرة من ندرة معينها، فصار مولد كتابه وبالاً عليه وتعساً لآماله، وفناءً لوقته وأحلامه.
ج 055153654
|