Sunday 3rd august,2003 11266العدد الأحد 5 ,جمادى الثانية 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

رسالة العصر «1/4» رسالة العصر «1/4»
الشيخ سلمان العودة

إن الحب في الله هو الإكسير الذي يحطّم العوائق، ويربط القلوب والنفوس مهما تباعدت في مواقعها ومواقفها ومداراتها واتجاهاتها وانشغالاتها؛ فلنرفع راية المحبة في وجه كل أعاصير الكراهية والبغضاء!
إن العصر الذي نعيشه يضجُّ بالمظالم، والعدوان، والقتل، والعنف؛ مرة باسم الحرية، ومرة باسم الديمقراطية، ومرة باسم السلام، ومرة باسم الإسلام؛ فلنعالج ذلك كلّه برفع راية المحبة والوئام، ومحبة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، والمحبة في الله وفي رسوله صلى الله عليه وسلم من خصائص المؤمنين، يقول الله سبحانه: {)يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (المائدة:54)
ولندرك! أن العسر كلمة صغيرة محفوفة باليسر قبلها، واليسر بعدها، ولن يغلب عسر يسرين.. {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) } [الشرح:5 ـ 6].


إذَا ضَاقَتْ بِكَ الدُّنْيَا
فَفَكِّرْ في ألمْ نَشْرَحْ
فَعُسْرٌ بَيْنَ يُسْرَيْنِ
تَأَمَّلْ فِيهِمَا تَفْرَحْ

والحياة مليئة بالفرص، كما هي مليئة بالعوائق، والعقبات، والنكبات؛ فإذا نظرت إلى الجانب المظلم.. الجانب الفارغ.. فاختلس نظرة أخرى إلى الجانب
المشرق.. الجانب الملآن.


إِذَا تَبَاعَدْتَ عَنْ حَبيبٍ
فَلاَ يَهُولَنَّك البعادُ
وَالْتَمِسِ العَوْدَ مِنْ قَرِيبٍ
فَإِنَّ عَكْسَ الْوَدَآعِ عَادوا!

فلتكن رسالةُ العصرِ بالمحبة والفرج والتيسير من الحكيم الخبير.
هذه خواطر أخوية، هدفها المناصحة، والمصافحة والمصالحة، وقد كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إذا تلاقوا لم يفترقوا حتى يقرأ أحدهم على الآخر سورة العصر ثم يسلم أحدهما على الآخر، كما رواه الطبراني، والبيهقي في شعب الإيمان، وسنده جيد.
إن من الفقه القرآنى العناية بالمسائل الكبيرة والمهمة، وإعطاءها حقها، بينما نغرق كثيراً.. كثيراً في مسائل من الدرجة الثالثة أو العاشرة.. وتستغرق الكثير من جهدنا وطاقتنا، وطاقة الإنسان محدودة فإذا استغرقها في التفاصيل والجزئيات انقطع عن التأصيل والكليات، وانشغل بالمسائل الصغار عن الكبار، والصحابة - رضوان الله عليهم - كانوا يتذاكرون هذه السورة لما فيها من أصول المسائل التي يجدر بالمسلم العناية بها، ولأنها تربية على الأصول الكبرى، وقد ينشغل المرء بالمفضول عن الفاضل، وهذا من مداخل الشيطان كما ذكره أهل العلم، أو يتحرج المرء من صغيرة ويقدم على كبيرة، وكان ابن عمر يقول: ما أسألكم عن الصغيرة وأجرئكم على الكبيرة، تقتلون الحسين ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وتسألون عن دم البعوضة. والذين يجلدون الإمام أحمد بن حنبل كانوا يسألونه عن الدم الذي ينضح على ثيابهم، وكانوا ينتقدونه على أن يصلي وهو جالس والقيد في يديه وفي رجليه.
ثمت ثلاث مسائل مهمة:
أولها: الزمان.
الثانية: الإنسان.
الثالثة: العمل.
هذه المسائل الثلاث هي سر النجاح والفلاح في الدنيا، وهي سر الفوز والنجاة في الدار الآخرة؛ ولنقف عند كل واحدة منها.
أولاً: الزمان.
وهو العصر.. وهو البريء المتهم المظلوم، فالناس كثيراً ما يلقون مشاكلهم وإخفاقاتهم على الزمان، وهو مجرد وعاء وإناء ليس له ولا عليه، هو طرف محايد، ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن سب الدهر، وقال عن ربه تبارك وتعالى: (يؤذيني ابن آدم بسب الدهر، وأنا الدهر، بيدي الأمر أقلّب الليل والنهار).ومعنى أنا الدهر أي أن ما ينسبه الناس إلى الدهر إنما هو بمشيئة الله تعالى وقدره، فهو خالقه سبحانه، ولا شيء في هذه الدنيا يتم عبثاً ولا اعتباطاً وإنما هو بتقدير الحكيم الخبير.


نعيب زماننا والعيب فينا
وما لزماننا عيب سوانا
وقد نهجوا الزمان بغير جرم
ولو نطق الزمان بنا هجانا
وليس الذئب يأكل لحم ذئب
ويأكل بعضنا بعضاً عيانا

وقد أقسم الله تعالى بالعصر لعظمته وأهميته وضخامة أثره ودوره، فهو ظرف العمل ووعاؤه، وهو سبب الربح في الدنيا والآخرة أو الخسارة فيهما، ولهذا قيل: الوقت هو الحياة، قال الله تعالى: {)وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً) (الفرقان:62)
قال ابن عباس من فاته عمل الليل قضاه بالنهار، ومن فاته عمل النهار قضاه بالليل. وقال جل وعلا: {)وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ، )وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) } [فاطر: 36 ـ 37]. قال ابن عباس: عمرناكم ستين سنة.
قال ابن عباس: عمرناكم ستين سنة.
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أعذر الله إلى امرئ أخر أجله حتى بلغه ستين سنة).
قوموا يا أبناء الستين!
وقال الحسن: أولم نعمركم أربعين سنة!
قوموا يا أهل الأربعين!
قال قتادة.. نزلت هذه الآية وإن فيهم لابن ثماني عشرة سنة!
أين أنتم أيها الشباب؟
أين انتن أيتها الفتيات؟
قال أحد البطالين لعامر ابن عبد قيس: تعال أكلمك، قال له أمسك الشمس.
أي ليس لدي وقت للكلام الفارغ إلا أن تمسك الشمس ويتوقف الزمن ويتوقف دوران الأيام وصرير الأقلام، فحينئذ أتوقف لمحادثتك، ولهذا عني السلف بحفظ الأوقات وضبطها.
وقد كتب الشيخ عبدالفتاح أبوغدة كتابه المعروف: قيمة الوقت عند العلماء.
وأقسم الله تعالى بـ {الًعّصًرٌ} لأنه يتحول ويتبدل ويتغير، ليل ونهار، وصيف شتاء، وحر وبرد، وعزة وذلة، ونصر وهزيمة، وفقر وغنى، وشدة ورخاء، وقوة وضعف، ومرض وعافية، وعسر ويسر، وغيبة وحضور، وهذا هو التاريخ كله مبسوط أمامك:


وما الدهر إلا منجنون بأهله
وما صاحب الحاجات إلا مضيعاً
تروح لنا الدنيا بغير الذي غدت
وتحدث من بعد الأمور أمورُ
وتجري الليالي باجتماع وفرقة
وتطلع فيها أنجم وتغورُ
وتطمع أن يبقى السرور لأهله
وهذا محال أن يدوم سرورُ
عفا الله عمن صيّر الهم واحداً

وأيقن أن الدائرات تدورُ إن في الحاضر اليوم من ضعف المسلمين وتفرقهم وسطحية تفكيرهم وتسلط عدوهم أمراً يبعث على الكآبة والحزن، وهذا يمكن مداواته بنوع من الامتداد إلى المستقبل، وانتظار الفرج والسعي في التغيير، وألا نظن أن الواقع سرمدُ لا يزول.
* وأتعجب وأتساءل من هؤلاء الذين اقسموا ما لهم من زوال؟.
أليس كل الناس يدري، بل حتى الحيوان يدري أن له أجلاً يجري ومصيراً يتوقف عنده وأن الموت في انتظاره طال الزمن أو قصر؟
من هؤلاء الذين اقسموا ما لهم من زوال؟
حتى قرأت كتاب نهاية التاريخ للمفكر الأمريكي فوكوياما، والذي كان احتفالاً بسقوط الشيوعية، يقول: إن الغرب قد انتصر، إن الديمقراطية الغربية قد انتصرت وحدث الأمر المنتظر فلا جديد بالتاريخ بعد ذلك إنها نهاية التاريخ.. {أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَال(44) )وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ) (ابراهيم:45)
حلّ اليمين المتطرف محل الطغيان اليساري في العراق وفي غير العراق {فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ) (ابراهيم:47)


ملكنا أقاليم البلاد فأذعنت
لنا رغبة أو رهبة عظمائها
فلما انتهت أيامنا عصفت بنا
شدائد أيام قليل رخائها
وكان إلينا في السرور ابتسامها
فصار علينا في الهموم بكاؤها
وصرنا نلاقي النائبات بأوجه
رقاق الحواشي كاد يقطر ماؤها
إذا ما هممنا أن نبوح بما جنت
علينا الليالي لم يدعنا حياؤها

وأقسم الله ب {الًعّصًرٌ} إشارة الى ضرورة المعاصرة والمعايشة والفهم للزمان، وهذا هو الفرق بين العصر والدهر، فالدهر هو الزمان كله، أما العصر فهو عصرك الذي تعيش فيه، فالمرء محتاج إلى أن يكون عارفاً بزمانه مقبلا على شأنه مدركاً للتحولات والتغيرات التي تطرأ.
ما بين غمضة عين وانتباهتها
يغير الله من حال إلى حال
تزوج الصمة القشيري امرأة فلم تستطع ان تتطبع مع تطلعاته وأحواله، ولم تتكيف مع الوضع الجديد، فتولى وطلقها البتة وهو يقول:
كلي التمر حتى يصرم النخل واضفري
خطامك ما تدرين ما اليوم من أمس
فالذي لا يدري يومه من أمسه من غده لا يستطيع أن يعمل عملا صالحاً ينفع نفسه وينفع أمته.
* وقال صلى الله عليه وآله وسلم في دعائه: (اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم)، وعلمنا ربنا تبارك وتعالى أن نقول في كل ركعة: {اهًدٌنّا الصٌَرّاطّ المٍسًتّقٌيمّ} *الفاتحة: 6* ليؤكد على أن ثمت ألوانا وأبواباً من الهداية لم تفتح بعد، وأننا بحاجة إلى أن نطرقها، وأن نسأل الله تعالى فتحها، وأنه ليس صحيحاً أن ما أنت عليه يكفي.
وليس ما أنت عليه هو الحق دائماً وأبداً، بل من الفقه العظيم القدرة على استيعاب المتغيرات دون إخلال بثوابت الشريعة ومحكماتها.
والناس منهم من يجمد على بعض المعاني، وبعض الآراء والمفاهيم القابلة للأخذ والرد وهؤلاء يجعلون الأمر القابل للتغير ثابتاً حتى ليرفض الكثيرون منهم السنة التي لم يعلموها من قبل، قال لي أحدهم: ما بال فلان كان يضع يديه على صدره في الصلاة ثم أصبح يضعها على سرّته.
ومن الناس من يضطرب في الثوابت والمسلمات والضروريات والقطعيات، حتى لتجد اليوم في بعض حوارات الإنترنت أو الفضائيات جدلاً في مسائل قطعية محسومة كالمجادلين في الله تبارك وتعالى أو القرآن أو الوحي أو الرسول صلى الله عليه وسلم أو في علاقة الدين بالسياسة، وتستمع إلى نوع من العلمنة والتغريب، واستنساخ القيم الموجودة في الثقافة الأمريكية أو غيرها.
* ، قال الأمريكي المسلم محمد علي: إذا كنت أقول اليوم وأنا في الأربعين ما كنت أقوله وأنا ابن العشرين فمعنى ذلك أني ضيعت عشرين سنة من عمري دون جدوى.
إن المتغيرات والأحوال تكشف عن معادن الرجال وقدرتهم على الاستقلال، فمن الناس من يقع في أسر النفس وهواها، ومنهم من يقع في أسر السلطة، ومنهم من يقع في أسر الأتباع، والحرية هي الخلاص من ذلك كله.
قال أبو يزيد البسطامي: لو صحت الصلاة بغير القرآن لصحت بقول الشاعر:


أتمنى على الزمان محالاً
أن ترى مقلتاي طلعة حرّ

وأقول: لو صحت الصلاة بشيء غير القرآن لصحت بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة إن أعطي رضي وإن لم يعط سخط تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش) تعس عبد المادة، تعس عبد الشهوة، ولكنها لا تصح بغير كلام الله، فأقرؤوا ما تيسر منه:


فإن تكن الأحوال فينا تبدلت
بنعمى وبؤسى والحوادث تفعلُ
فما لينت منا قناة صليبة
ولا ذللتنا للذي ليس يجملُ
ولكن رحلناها نفوساً كريمة
تحمّل ما لا تستطيع فتحملُ

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved