مناوب ولم تنم طوال الليل وأدخلت إلى المستشفى حالات حرجة بعضها بين الموت والحياة، بذلت قصارى ما تستطيع لإسعاف هذه الحالات وإبعاد شبح الخطر عنها.. تذهب في الصباح الباكر لتقديم التقرير الصباحي «morning report» ثم يأتي متبطر متثائب ليسائلك عن مسألة جانبية بعيدة.. مريض دوالي المريء الذي كان ينزف البارحة هل سألته هل يجب تناول الهمبرجر بالكتشب أم بدون كتشب، أسئلة من هذا القبيل تثير النرفزة حتى عند أهدأ الناس أعصاباً.
* لديك قائمة طويلة من العمليات وأنت على أحر ما تكون والفريق من حولك على أبرد ما يكونون.. ساعة ليغادر المريض الأول غرفة العمليات، وساعة ليدخل المريض الثاني، واستراحة للقهوة واستراحة للغداء وسلسلة طويلة من التأخير بحيث يمضي معظم النهار ولم تنته بعد من نصف القائمة.. لاشك انه سبب وجيه للنرفزة.
* العيادة مزدحمة والمرضى ينتظرون دورهم والمريض الذي بين يديك يعيش في عالم آخر لا ادري هل يظن انه هو الوحيد في هذه العيادة؟! يسأل عن احوال الاهل والوالد والوالدة ثم يعرج على مشكلاته الصحية ثم يختم ببعض الطرف أو النوادر وأنت في حاجة إلى كل دقيقة تخفف بها سيل المرضى الذين هم امام باب عيادتك.. فعلاً لقد صدقت العرب عندما قالت: ويل للشجي من الخلي.
* البيجر وما أدراك ما البيجر جهاز النداء الآلي أو أحد أجهزة التعذيب التي اخترعها زبانية الاتصالات لتعذيب الأطباء.. الويل لك إن لم ترد على الاتصال فأنت متسيب وعديم المسؤولية ولا أدري لماذا لا تهب رياح البيجر إلا في الاوقات الحرجة وأنت في الحمام أو على طاولة الطعام أو في إغفاءة قصيرة وسط مناوبة كثيفة، ولكن لا شيء يثير النرفزة أكثر من الذين يطلبونك بالبيجر ثم يشغلون الخط باتصال آخر وبعد ذلك يزعمون أنك لا تستجيب لندائهم.
* تذهب إلى غرفة العمليات.. المريض بانتظارك والممرضات يستحثنك على الوصول بسرعة وليس بينك وبين الدخول إلا ان تغير ملابسك وتلبس الزي الخاص بغرفة العمليات، والقصة معروفة لا يوجد عدد كاف من الغيارات أو لا يوجد المقاس المناسب لك ولابد من الانتظار لا أدري لماذا لا يوجد حل جذري لهذه المشكلة التي تتسبب في نرفزة لا داعي لها؟
* هناك مستشفيات مازالت تعيش في العصر الحجري وهي تضبط دوام اطبائها من خلال دفتر الحضور والانصراف وليس من خلال معايير قياس الجودة والانتاجية التي تتبعها مستشفيات العالم وتوقيع صباحاً وتوقيع ظهراً عند الانصراف، وخصم اذا نسيت ان توقع وتحقيق اذا تأخرت انه امر يدعو للنرفزة ان تأتمن الاطباء على الارواح ولا تأتمنهم على الغدو والرواح!
* لا شيء يغيظ أو يثير الحنق والنرفزة أكثر من رؤية طبيب في حالة صراخ وهيجان سواء كان هذا الصراخ موجها لمريض أو لممرضة أو لزميل دونه في الرتبة.. انها اخلاقيات القهاوي الشعبية أو سمها على طريقة اخواننا المصريين «الفتوة» من لا يستطع ان يكظم غيظة أو على الاقل يعبر عن غيظه بصورة حضارية فيترك مستشفياتنا وليبحث لنفسه عن قهوة أو زقاق ينفس فيه عن غضبه.
رغم كل ما ذكر فإن مشاهد النرفانا لمن بصره الله بها تفوق كثيراً مشاهد النرفزة السعادة في إكمال عملية جراحية معقدة بنجاح أو السعادة في الوصول إلى التشخيص الصحيح لمرض محير أو الفرحة بمسح المعاناة عن مبتل أو البهجة بسماع دعوات صادقة من عجوز معدم أو النشوة بتعليم زميل لك مهارة أو معرفة جديدة أو الزهو بنشر مقالة علمية أو محاضرة علمية ناجحة.. انها مشاهدة كثيرة والسعيد من فاقت أفراحه أتراحه وغلبت نرفاناته نرفزاته.
* المشرف العام على المركز
واستشاري طب وجراحة العيون
|