Saturday 2nd august,2003 11265العدد السبت 4 ,جمادى الثانية 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

مجس السويد...! مجس السويد...!
عبد العزيز السماري

كتب الكاتب المميز عبد العزيز السويد مقالاً بعنوان «جس الطبيب» في جريدة الرياض يوم الثلاثاء الماضي، الموافق لتاريخ 29 يوليو 2003، وراح فيه يتحسس أو «يتجسس» عن أحوال الطبيب السعودي، فكتب أنه لم يعد سر اهتمام الطبيب بالمواطن الكبد والقلب، لكن محفظة الجيب.
وجاء في المقال أيضاً الجس المنفرد التالي: «جاءنا زمن فيه افتخرنا بالأطباء السعوديين وعج الاعلام بأول عملية من نوعها وأكبر ورم مستأصل وأحدث جهاز في العالم، بعد استغلالنا لصيغة أفعل لابرازهم فعل بنا الأطباء «الأفاعي..ل».. فماذا فعلوا؟، فتحوا عيادات ومراكز ومستشفيات تشبهوا فيها بالجرابيع، كل عيادة لها أكثر من باب وغرفة يجهز فيها أكثر من مريض في الوقت نفسه لصاحب الطبابة الذي يقفز هنا وهناك لضرب رقم قياسي في مسح الملفات واعادتها للادراج، أصبح الأطباء أكثر اللاهثين وراء المادة في مجتمعنا، الصغار منهم يحلمون بمراكز أو مستوصفات، والكبار يجمعون ولا يشبعون»..
فالكاتب السويد يعتب بشدة على الأطباء السعوديين اندفاعهم للكسب المادي، والتعامل مع العناية الصحية كسلعة تجارية، تطرح للمساومة والمزايدة وتخضع أرباحها لمهارات التسويق، ويبدو أن الكاتب كان يحمل للطبيب السعودي تقديراً عالياً ، ويضعه في صورة فاضلة، ولا يتصوره في موقع أدنى من ذلك، لذا يجب عليه على وجه الخصوص أن يكون مميزاً، وأن يلتزم بفضيلة الأخلاق والنزاهة في المعاملات التجارية، وحين ظهر على بعضهم ما يخالف تلك الصورة المثالية، صاروا «جرابيع»!..
وعلى وجه العموم، أتفق مع الكاتب ان هناك توجها من «بعض» الأطباء للعمل في السوق و«بيع» المشورة الصحية والعناية بكافة أنواعها التشخيصية والطبية والجراحية، ولكنه ربما غاب عن علمه أن أغلب المستشفيات الخاصة الكبيرة وبعضا من المستوصفات، يملكها رجال الأعمال، ولا أظن أن هذه المعلومة تخفى على كاتب في حجم عبد العزيز السويد، وأن الطبيب لا يأخذ في واقع الأمر من الأرباح إلا نسبة من كلفة استشارته الطبية أو اجرائه الطبي، بينما تذهب بقية العوائد المالية لمالك «الاستثمار» الطبي، ولكن لعلها أحد الأسوار العالية التي لا يستطيع الأستاذ عبد العزيز السويد الاقتراب منها، فقد عزف على مجسّه بصورة منفردة وكال تهماً وبعضاً من الملاحظات الصائبة على سلوك بعض الأطباء، مع العلم أن القضية المثارة لها أطراف أكثر تأثيراً على ما يحدث، ولا غرابة فالأطباء «جدار قصير» فلا غرفة تجارية تحمي حقوقهم، ولا مؤسسة مدنية تدافع عن الاتهامات التي تثار حولهم.
والطبيب يا سيدي الفاضل، ليس إلا احدى أدوات الربح المادي في سوق الصحة السعودية، ورجل الأعمال سواء كان طبيباً أو «تاجر أسهم» أو خردة هو من اقتحم السوق بحثاً عن عوائد الربح المادي من «جيوب» المرضى.. ولم يندفع هؤلاء إلى سوق الصحة إلا بعد السماح لهم بقرار حكومي، يجيز لهم الاستثمار في الرعاية الصحية، وللأطباء بمزاولة المهنة والتعامل بمنتجاتها «كسلعة تجارية».
والأخلاق التي يبحث عنها الكاتب فقط عند الأطباء، لا يمكن أن تحكم السلوك التجاري، فالاستغلال والاحتكار والغش والتنافس «غير الأخلاقي» وجوه متعددة لما يحدث في عالم التجارة من تجاوزات، وإذا لم يكن هناك قانون مدني صارم، يحكم معاملات التجارة وتجاوزاتها، ستعم الفوضى والاستغلال ولن تجدي المواعظ ولا نداءات الالتزام بفضيلة الأخلاق، والتاريخ علمنا أن مجتمع المدينة الفاضلة لا يوجد إلا في مخيلة بعض الوعاظ والفلاسفة، ولكن ما يجعل ما يقوم به المستثمرون والأطباء مكلفاً ومؤلماً في سوق العناية الصحية، هو ذلك الفرق الكبير بين المتاجرة بصحة الناس، والمتاجرة مثلاً بالأثاث، فالحاجة الضرورية للعناية الصحية تختلف عن الحاجة الاختيارية مثلاً لأثاث أو سيارة أو رحلة سياحية، فالإنسان مستعد لدفع كل ما يملك لعلاج ابنه أو أحد والديه..
لذلك.. يصبح طرح العناية الصحية كسلعة تجارية اشكالية أخلاقية..، وهو ما يعني أنه لا يمكن تسويق العناية الصحية كسلعة تجارية، وأنه لا مفر من تطبيق ضمان صحي تعاوني حكومي خارج مضاربات السوق، لتقديم العناية الصحية المتطورة والمكفولة، وتقليل الاعتماد على القطاع الخاص في تقديم الرعاية الصحية، وبالتالي تقليص اعتماد المرضى على السوق الخاصة وخفض نسب مخاطر الافلاس وضياع الثروات الشخصية نظراً للتكاليف العالية للعناية الصحية،.. وهذا بالضبط ما يحدث في بلاد العالم المتقدم ككندا وفرنسا وبريطانيا وألمانيا، وهو ما يطرح السؤال الأهم وهو لماذا نبدأ من حيث بدأ الآخرون في قطاع الصحة؟
فالحقائق المؤكدة تقول إن خصخصة العناية الصحية كارثة انسانية، ولا يمكن على الاطلاق أن يحكمها قانون اخلاقي أو مواعظ أو اتهامات بلا حدود لمهنيين، خرجوا إلى السوق التجارية بقرار رسمي، وتحت مظلة اغراءات عروض رجال الأعمال والمستثمرين الأطباء في تقديم أو بيع «الصحة» للمواطنين.
هذه الاشكالية سبق وأن طرحت في الصحافة المحلية، وقد تناولت بعض أوجهها في مقالات سابقة، والنموذج الصحي الذي نسير في خطواته ظاهره أمريكي، حيث المفترض أن تحكمه شركات التأمين «الخاصة» والقانون المدني، لكن مضمونه الحقيقي في واقع الأمر «مصري»، أي خليط من قطاع صحي خاص، تكاليفه باهظة، ويحرص على الكسب المادي، ومن عناية حكومية غير قادرة على تغطية جميع المواطنين.
والدراسات التي نشرت في كبرى المجلات الطبية مثل لانست ونيوإنجلند أوضحت أن تبعات نقل النموذج الأمريكي لدول العالم الثالث تضر بالمرضى الفقراء وذوي الدخل المحدود، فشركات التأمين الصحي الهادف للربح تختار فئات عمرية شابة، لا تعاني من أمراض مزمنة مثل السكر والضغط أوالسرطان، وتسعى للحد من نسب كبار السن في برامجهم للتأمين الطبي لارتفاع تكاليفهم الصحية، فالإنسان كلما تقدم في العمر زادت نسب متاعبه الصحية، مما يقلل من تحقيق أرباحهم العالية في سوق العناية الصحية. كما اثبتت الاحصائيات ان النموذج الأمريكي الاستثماري في العناية الصحية عبر شركاته العابرة للقارات لا يخدم إلا ذوي الدخل غير المحدود في العالم الثالث.
وإذا السنون أثبتت فشل النموذج الأمريكي في تقديم الصحة للجميع، برغم من رقابة القوانين وتطبيق أنظمة التأمين التي تلزم صاحب العمل بتأمين جميع موظفيه، فما بالك يا أخي الفاضل بالنموذج العالم «الثالثي» كالمصري مثلاً، الذي لم ولن يغطي تقصير وسوء خدماته، فتح عيادات «خيرية»..فقصص البؤس والفقر والافلاس نتيجة بيع الأراضي والمزارع لتغطية تكاليف العلاج الطبي المرتفع، يتناقلها المهتمون بشؤون الإنسان في مصر أو غيرها من بلاد العالم الثالث.. وأصبح النصب الطبي الذي يمارسه بعض الأطباء وبعض رجال الأعمال تنسج منه الحكايات والروايات التي مآلها ذاكرة النسيان.. في العقل الحكومي..!
ولهذا السبب ولأسباب أخرى وقفت المؤسسات والجمعيات والنقابات العمالية والطبية في البرازيل والاكوادور وتشيلي والارجنتين وكندا.. ضد دخول شركات ادارة العناية الصحية للقيام بدور الحكومة المركزية في تقديم الخدمات الصحية.. وضد خصخصة العناية الصحية المحلية.. والنموذج الأمريكي المتطور، ترفضه مجتمعات مجاورة لها.
فمجتمع الصحة الكندي بكل فئاته من سياسيين واداريين وأطباء وممرضين، يرفض تماماً خصخصة الصحة، ويعتبرها وسيلة غير مشروعة، ويمنع القانون في أغلب المقاطعات أخذ «بنس» واحد من المريض، لقاء تقديم عناية صحية، وكندا كمثيلاتها في بلاد أوروبا الغربية، تطبق الضمان الصحي «الحكومي» أو التعاوني غير الهادف للربح، وترفض خصخصة العناية الصحية لأسباب انسانية.

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved