الانحراف الفكري مرض خطير، يجعل ضحيته يتصور أشياءً، ويعتقد أموراً، تدفعه لتصرفات خاطئة، وتصورات خطيرة، وحقيقتها أوهام عارية من الصحة، وظنون واهية متهالكة، تأكدت عنده، بسبب هذا المرض الخبيث. وهذا الداء له أسباب، في مقدمتها سوء التغذية الفكرية، لأن الفكر يمرض كالبدن، فكما أن البدن يصاب بالأمراض العضوية، عندما تسوء تغذيته، فكذلك الفكر، عندما يكون غذاؤه سيئاً فإنه يمرض، بل بعض الأغذية الفاسدة، تؤدي به إلى التسمم، على تنوع مصادرها، سواء كانت من خلال شريط أو كتاب، أو قناة فضائية، أو على صفحة مجلة أو جريدة، أو حتى في جلسة خاصة في استراحة أو مزرعة. وهذا الداء الخطير، يصل بمن أصيب به إلى أوضاع سيئة، ويوقعه برذائل وكبائر موبقة، منها: الكبر والغرور، فالمنحرف فكرياً يصاب بالكبر، ويتمكن منه الغرور، فيرى أنه الأفضل، فيحتقر غيره، حتى ولو كان هذا الغير أفضل منه بكثير، بل حتى ولو كان عالماً صالحاً، أو داعية ناصحاً، فإنه لا يراه شيئاً، ولا يصغي لنصحه، ولا يعمل بإرشاده وتوجيهه، بسبب ما تمكن منه من الكبر والعجب والغرور، فمثله كمثل ابليس، لما أمره الله بالسجود لآدم، أبى أن يسجد، {)قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) (12)
وفي آية أخرى قال: {أّأّسًجٍدٍ لٌمّنً خّلّقًتّ طٌينْا (61)}، فأبى السجود غير مبال بأمر من خلقه وأسكنه جنته، والذي دفعه إلى ذلك انحراف فكره، فقد أدى به فكره المنحرف إلى هذا التصور الخاطئ، ودفع به إلى هذا العمل المشين. وكذلك من نتائجه، الحسد والبغي، حتى ولو أدى ذلك إلى القتل، فالمنحرف فكرياً عنده الاستعداد بأن يقتل، ولا يبالي في ذلك، بل حتى لو كان أقرب الناس إليه يقتله غير مبال بنتائج قتله، يقول الله تعالى{)وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) (27) )لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ) (28) )إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ) (29) )فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (30)
قتل أخاه بسبب حسده وبغيه، الناتج عن انحراف فكره. ومن رذائل الانحراف الفكري، رمي الفضلاء بما ليس فيهم، كالذين يتهمون العلماء بالمداهنة، أو بالسكوت عن المنكرات، أو عدم فقه الواقع، أو عدم النصح، أو بأنهم علماء سلطة، أو غير ذلك مما يشنشن حوله مرضى الانحراف الفكري في هذه الأيام، ومثل هؤلاء كمثل الذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا، نسأل الله جل وعلا أن ينتقم منهم، يقول تبارك وتعالى: {)يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً) (69)
فبنوا إسرائيل، اتهموا نبيهم موسى - عليه السلام - بأمر ليس فيه، فبرأه الله مما قالوا. فاتهام الصالحين، والقدح في أعراض المؤمنين، من أبرز علامات مريض الانحراف الفكري، فإذا رأيت، من يتهم العلماء، ويهون من أمرهم، وينفر عنهم، أو يشكك في مقاصدهم، فاسأل الله له الشفاء، فإنه مصاب بمرض الانحراف الفكري. وهذا الأمر، من الخطورة بمكان، يخشى على من وقع به من الكفر والعياذ بالله، وهذا ما حصل للمنافقين، حينما استهزؤوا بالنبي صلى الله عليه وسلم وبأصحابه، فقال: أحدهم ما رأيت مثل قرائنا هؤلاء - يقصد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه - أرغب بطونا، ولا أكذب ألسناً، ولا أجبن عند اللقاء، فقال له رجل في المسجد: كذبت، ولكنك منافق، لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه ونزل القرآن، يقول عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما - أنا رأيته متعلقاً بحقب ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم تنكُبُه الحجارة، وهو يقول: يا رسول الله، إنما كنا نخوض ونلعب، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:{أّبٌاللَّهٌ وّآيّاتٌهٌ وّرّسٍولٌهٌ كٍنتٍمً تّسًتّهًزٌءٍونّ} فليحذر الذين يتطاولون على علمائنا، وليتقوا الله جل جلاله، فلحوم العلماء مسمومة، وعادة الله فيمن تنقصهم معلومة. ومن النتائج الخطيرة التي يصل إليها مريض الانحراف الفكري، فعل ما حرم الله، وجعله قربة يتقرب بها إلى الله جل جلاله، وما هذه التفجيرات الأخيرة، وتلك الأسلحة المدمرة، في مكة والمدينة، إلا من هذا الباب، وهذا ما سلكه الخوارج عليهم من الله ما يستحقون. رئيسهم ذو الخويصرة، الذي اعترض على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أعدل ، فقال صلى الله عليه وسلم:«ويلك، فمن يعدل إذا لم أعدل؟» فقال أحد الصحابة: يا رسول الله، أتأذن لي فيه فأضرب عنقه؟ فقال:«دعه فإن له أصحاباً يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، طوبى لمن قتلهم، لئن أنا أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد، هم شر قتلى تحت أديم السماء، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم». فالخوارج أهل صلاة وأهل صيام، وأهل قرآن ولكنهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، بسبب ماذا؟ بسبب انحراف أفكارهم. قتلوا عثمان رضي الله عنه، ثالث الخلفاء الراشدين، ذا النورين، الذي تستحيي منه الملائكة، المبشر بالجنة، قتلوه باسم الدين وإعادة الخلافة الراشدة. وأخيراً هل لهذا الداء من علاج؟ نعم له علاج، فهو داء والنبي صلى الله عليه وسلم أخبر بأن لكل داء دواء، فعلاجه باختصار، البعد عن تلك المصادر الفاسدة التي تسمم الأفكار، والرجوع إلى المصادر النقية الصافية، إلى نصوص الكتاب والسنة، وفهمها كما فهمها سلفنا الصالح، فإن نفع هذا العلاج وإلا هناك نوع من علاج آخر، عالج به عمر بن الخطاب رضي الله عنه صبيغاً الخارجي، حينما قدم صبيغ المدينة، وكان عنده كتب، فجعل يسأل عن متشابه القرآن، فبلغ ذلك عمر رضي الله عنه، فبعث إليه، وقد أعد له عراجين النخل، فلما دخل عليه قال: من أنت؟ قال: أنا عبدالله صبيغ، قال عمر: وأنا عَبدُاللهِ عمر وأومأ إليه، فجعل يضربه بتلك العراجين، فما زال يضربه حتى شجه وجعل الدم يسيل على وجهه، فقال: حسبك يا أمير المؤمنين، فقد والله ذهب الذي أجد في رأسي، فأذهب الله ما بفكر صبيغ بسبب عراجين عمر، فياله من دواء نافع. ( *
) حائل - ص.ب: 3998
|