Friday 1st august,2003 11264العدد الجمعة 3 ,جمادى الثانية 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

قصة قصيرة قصة قصيرة
وتعطلت لغة الكلام
شموع محمد الزويهري

لم تكن الجامعة بالشيء البسيط في حياتها بل كانت الامل بعد الله الذي دائما ما كانت تشعر بأنه سيعوضها ما تعانيه من اوجاع تعبث بكيانها في كل لحظة.
هدى..
تلك القسمات التي أكلت معنى اسمها ورسمها فكانت ذات وجه مشرق وابتسامة دائمة رغم الألم.. وحتى وخزات الشوك التي تشعر بها في كل لحظة وثانية.
فهاهي ربت يتيمة بعد ان فقدت الحضن الدافىء فكانت تدور وتدور بجنبات المنزل وهي تأتي طفلة لم تتعد الثانية من العمر نبحث عن اي شيء فيه رائحتها وما يسكنها غير احدى «الاجلة» وقد احتلت رائحة عطرها اعماقه فتضمه وتنام وخيال والدتها الراحلة يلوح لها ويهديها فيتسرب عبر اذنيها ترنيمتها المعتادة وهي تشدوا بها قبل اسابيع من رحيلها حتى وقت الغفوة!!
وتمضي بها الليالي فقد هذا الرداء رائحته.
واعتادت هي قسمات جديدة تتخللها الصرامة في بعض الاحيان. وكبرت.. وتفتحت كالزهرة وقت الشتاء كان بروزها على خجل ممزوج بالخوف يثيرها صوت الرياح ويخيفها الاحساس بالخوف.
صارت هدى في الثامنة عشر من عمرها او يزيد قليلا.
فأتى من يطرق الباب طالبا يدها على عجل.. وكأنها مجرد تحفة يفاوض لشرائها؟!
تم كل شيء وزفت اليه وسط ذهول اقاربها الذين لم يصدقوا سرعة موافقة والدها وزوجته دون سؤال عمن سيقترن بها وهل هو بنفس مستوى تفكيرها وآمالها وطموحها الذي حاول اخماده لولا شرط والدها باتمام مشوار تعليمها.
افاقت ذات صباح على دوخة خفيفة ظهرت نتائجها بوجود قادم الى الحياة كالبذرة الصغيرة يشق طريقة وسط عراقيل الزمن.
علم زوجها بذلك وفرح كثيرا لعل هذا يجبرها على التوقف.
ولكن..
هدى لم تستسلم وواصلت وسط الألم وهي تجاهد لكي تحافظ على مستوى تقدمها وكذلك واجباتها نحوه ونحو منزلها.
وتقدمت بها الأشهر وهي تتلمس تصرفاته الغريبة ويتسرب الى انفها رائحة الشك بوجود شيء ما قد دخل حياته فكثيرا ما كانت تلاحظ انه يطلب منها طلبات تبعدها عنه فكانت تقوم بما يزيد الا ان هناك من يصرخ بها توقفي هناك من يريد حفظه منك.. فتصمت وهي تقترب الى باب الغرفة وتنصت فتسمع منه كلمات رقيقة سبق ان سمعتها في أيام مضت وولى ذكرها ولكن هذه المرة ليس لها انها لطرف آخر.
كانت تجلب ما يريد على عجل فتدخل عليه ليتفاجأ بقراءتها لكل خطوط الارتباك التي ارتسمت عبر ملامح وجهه فحتى كلمات المجاملة الرسمية تحولت الى كلمات شرسة ومعاملة قاسية حتى وصل به الامر الى اخبارها بأنه لا يستطيع ايصالها الى الجامعة او ارجاعها وقد اتفقت معه بأن يتولى ذلك رحمة بها ورأفة بوضعها المتقدم فهي تعمل وزنها ووزن طفلها وتعود مهدودة القوى.
نظرت ذات يوم الى منزلها الصامت بعين غريبة فوجدته يخلو من الرأفة والرحمة والتعامل الودود بين اثنين تزوجا حديثا وتذكرت الآية التي ورد فيها الود والرحمة بين الزوجين وانكرت على نفسها ان تكون قد عاشت هذين المعنيين حتى قبل زفافها ومنذ نعومة اظافرها وتذكرت عمتها وهي تمسح على شعرها وتحكي لها عن اوصاف والدتها وعطرها وذوقها الفريد وحتى ملامحها التي اخذت هدى منها الكثير.. الكثير.
كان رنين الجوال يستفزها وهي تلاحظ انه يلقي نظرة عليه ويتململ ويرفض الرد عليه بوجودها.
هناك جلبة قوية شعرت بأنها تصحبها وتخطف سمعها وبصرها بل واحاسيسها بوجودها بالمكان فكانت تصرخ بأعلى صوتها معلنة الرفض.. الرفض لمزيدا من الصمت القاتل؟
صرخت بأعماقها وهي تحسب بأنها تصرخ بأعماقه لتقول له الى متى اعيش غربتي؟.. الى متى يتملكني الاحساس بانني من كوكب آخر هبط الى عالمكم الجاحد؟
هناك في عالمك الغامض اقبع اتوشح الألم المخلف بالصمت.. الصمت الفرضي منذ طرقت بابي ولمست فيك تنميق الكلمات الخالية من الصدق.
لم تكن المرفىء الذي حلمت الابحار منه يوما ما.. لم تكن زورقي الذي يحتويني بأمان للأسف لم تكن.
الحنين.. الحنين الى الدفء والامان الذي كنت انتظره في شخصك تبخر.. لم يعد بهمني.. لم أعد اطمع بأي شيء من عالمك الخلاع.
عادت الى واقعها ونهضت لعمل شيء في المنزل.
حل المساء وارخى الليل سدوله فهجع الجميع الا هي فغدا امتحانها الاخير، وقد صاحبتها اوجاع غريبة وشديدة في نفس الوقت انبلج الصباح وبغضت وذهبت الى جامعتها وسط تضاربات من الأوجاع التي لا تشكل حتى تم الاختبار وخرجت الى فناء الجامعة وهي تتألم فصادفتها حديقة لها وهي تواسيها وتحاول تهوين الامر عليها.
كانت مرهفة وفي حالة وضع فحاولت الاتصال به وتحجج بوجود رئيسه في العمل وطلب منها ان تسقط الحافلة الى المنزل وهو سيحاول الحضور باكرا.
عجبت زميلة هدى من رد زوجها وهي في هذه الحالة فعرضت عليها ايصالها الى المستشفى لأن وضعها لا يحتمل التأخير فوافقت على مضض بعد ان طمأنتها بأن زوجها طيب جدا وخدوم ولا يرفض لها طلباً وسيكون ممتنا لايصالها الى المستشفى ومساعدتها.
ليست هدى عباءتها وتبعت زميلتها التي فتحت لها الباب فدلفت منه وما أن استقرت على مقعد السيارة حتى شعرت بأن هناك من ضربها بمطرقة على رأسها فضجت الاوجاع وتسرب عبر شرايين دمها وخز ممزوج بمرارة تخترق قلبها ووجدانها واعماقها بل ورأسها الساخن حتى تخيلت انها مرت بفصول العام كلها خلال ثواني معدودة فتعرضت لحرارة صهرتها وبعدها اجتاح اعماقها الصقيع.
فهجمت الآلام دفعة واحدة وتمخضت منزل الطفل يشق طريقه فوق اريكة المركبة ليعلن للملأ مستوى ما وصل اليه الانسان من جمود في العواطف ويطلق صرخة الحياة لكي يكون اول السامعين له والده الذي خلف المقود وسط دهشة زوجته الثانية التي لا تعلم شيئا وسكون جسد الاولى الى الابد.

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved