اثنتا عشرة سنة وأنا أشيد لنفسي طموحاً شامخاً يليق بي.. طموحاً يليق بمن اجتهدت وكافحت لكي تصبح طبيبة ماهرة يشار إليها بالبنان ثم تفتتح لها عيادة خاصة للنساء حيث تمارس مهنتها التي طالما حلمت بها بكل جد وتفان في ظل تعاليمنا الإسلامية حيث لا أختلاط في هذه العيادة التي سأديرها بنفسي وفق شروط تضمن لي حرية الحركة والعمل..
أردت بذلك أولاً وجهه تعالى ثم ان ادخل الفرح والسرور على قلبي والدي اللذين تعبا في توفير جميع السبل المادية والمعنوية لي بل وتقاسما معي سهر الليالي مشاطريَّ أفراحي واتراحي حتى أصل الى ما أصبو إليه وأحرز نجاحاً باهراً يفخر به طيلة حياتهما ويرفعا رأسيهما عالياً حينما يطلق اسمي في أي محفل.. هذا فقط ما كنت أتمناه.. فهل هو فعلاً حلم مستحيل!!
حينما قرب المصير.. وأصبحت في الصف الثالث ثانوي بدأت الأمور تتضح أمام عيني أكثر فأكثر.. فلم يعد الأمر مجرد حلم يراودني بل دخل الآن في حيز التنفيذ فأنا الآن قاب قوسين أو أدنى منه وفي يدي إما إضاعة الحلم أو اثبات جدارتي وقدرتي على تحقيقه وهذا كله يعتمد على مدى جهدي وقدرتي على التحمل والصبر في الاستذكار.. وكما قال الشاعر: بقدر الجد تكتسب المعالي
ومن طلب العلا سهر الليالي.
أجهدت نفسي في دراسة متواصلة.. وكان نصيب جسدي من الارهاق والسهر كبيراً.. منعت نفسي من الفسح والتنزه والتلفاز وكل ما من شأنه تعطيل مسيرتي الدراسية.. لم أكن لأترك الباب إلا وقت النوم أو الصلاة.. فكانت أيامي ما بين معادلات الرياضيات ومسائل الفيزياء وأوراق الكيمياء.. اعتاد أهلي على مشاهدتي برفقة صديقي الجديد «كتاب الرياضيات» ليلاً نهارا..
جعلت هدفي نصب عيني.. فكلما داعب النعاس عينيّ أو تسرب لنفسي بعض الملل تجسدت صورتي أمامي في الخيال وأنا ارتدي ذلك المعطف الأبيض وفي عنقي تلك السماعة اللامعة.. وكانت هذه الصورة كفيلة لإزاحة أي تعب وشحني بالحيوية والنشاط من جديد.. أعلم ان نصيبي من التعب سيصل إلى الذروة في الأيام القليلة المتبقية على نهاية هذا العام الدراسي ولكن ما يهوّن علي ذلك ان هذا التعب سيكون في سبيل تحقيق حلم حياتي.. إذ سأحصل على النسبة التي احتاجها لدخول كلية الطب من جراء هذا التعب وتوفيق الله.. أخيراً حل موسم الامتحان حيث يكرم المرء فيها أو يهان وابتهلت إلى الله كثيراً ان يجعلني ممن يكرمون بعد الامتحان.. وبتوفيق من الله تمكنت من الحصول على نسبة جيدة تؤهلني للتقدم خطوة إلى الأمام عن طريق تحقيق الحلم ولكن مازال الطريق طويلا وليست هذه الخطوة الأخيرة.. ورغم السعادة الكبيرة التي غمرتني عند حصولي على المعدلات المطلوبة إلا انها كانت سعادة مشوبة بكثير من القلق على مصيري وصعوبة الخطوات القادمة المتمثلة بعدة مقابلات واختبارات قبول صعبة..
بدأت تقديم أوراقي وشهادتي لكليات الطب وكان علي بعدها اجتياز المقابلة الشخصية والامتحان فالمعدل وحده لا يكفي.. وبالفعل دخلت الاختبار وكنت متوترة لدرجة لا أحسد عليها فمصير حياتي يعتمد على هذه الورقة التي سأسلمها بعد انتهاء الحل إلى المشرفات حيث يتم التصحيح ومن ثم فرز أسماء البنات المرشحات للمقابلة نتيجة للاختبار.. خرجت بعد الاختبار وأنا في غاية الخوف غير قادرة على اخفاء ارتباكي عن أمي المسكينة التي أتت لمرافقتي في ذلك اليوم.. كانت تلك الأيام الفاصلة بين الاختبار وإعلان النتيجة أياماً عصيبة..
بعد مرور أيام عشتها بين صبر وانتظار أعلنت النتائج وكم كانت مخيبة للآمال.. حيث فوجئت بعدم وجود اسمي بين تلك الأسماء القليلة التي حالفها الحظ لترشح لدخول المقابلة.. لم تصدق عيناي ما ترى! وكأن ما يجري صاعقة نزلت علي.. أهو حقيقة ما يجري أم خيال..؟ أرجوك يا أمي قولي لي ان كل ما يجري الآن كابوس واني سأستيقظ منه بعد لحظات لأستعيذ من الشيطان وأحمد ربي على انه مجرد كابوس.. ما لك يا أمي.. لمَ لا توقظينني من الكابوس؟.. ما هذه الدموع يا أمي ولماذا تبكين؟ ألسنا في كابوس؟ ولكن أمي لم تجب واكتفت بدموع حارة سكبتها من قلبها قبل عينيها تبعتها انا كذلك بأنهار من دموع نزلت على وجنتي لتعلن عن وفاة حلمي وتمزق ذلك المعطف الأبيض وتحيله إلى أشلاء.. إذ علمت ان ما رأته عيناي حقيقة لا محالة.. وان علي تقبلها مهما كانت قاسية ومحطمة للآمال.. وكما في الحديث الشريف: قدّر الله وما شاء الله فعل. وقوله تعالى { وّعّسّى" أّن تّكًرّهٍوا شّيًئْا وّهٍوّ خّيًرِ لَّكٍمً}. بدأت استرجع شريط حياتي.. لأذكركم مرة نادتني صديقاتي وقريباتي بلقب الدكتورة، واذكر آلاف المرات التي كنت ارتدي فيها ذلك المعطف وانا صغيرة لألعب مع اخوتي لعبة الدكتورة نادين لأطبب اختي وأعطي أخي الحقنة واجبر اختي الأخرى على ارتشاف الدواء.. كم كنت أحب هذه اللعبة.. وكنت أصر في كل مرة على لعب دور الدكتورة.. فما كنت أود ان أفعل شيئاً في الحياة أكثر من أن أكون طبيبة وكم من مرة رسمت فيها نفسي وأنا أرتدي «البالطو» الأبيض أطبب المرضى واضمد جروح الآخرين.. فمن سيضمد لي جرحي اليوم إذ أصبحت أنا بحاجة لمن يخمد نيران جروحي التي شارفت على حرقي!
كل ذلك أصبح.. ضرباً من ضروب الخيال.. لم ولن أصل إليه.. لم استطع اقناع نفسي بما جرى.. فقد كانت المعضلة أقوى من طاقة احتمالي.. اعلم بأن ذلك قضاء الله وقدره.. ومن واجبي ان أومن به.. وبإذنه سأكون مؤمنة.. ولكني لن أنكر ما سقط من عيني من دموع.. ولن انكر آهات رددها قلبي.. ولن أنكر تلك التساؤلات التي دارت بمخيلتي ولم أجد من يجيبني عليها.. لن انكر.. لن انكر ذلك..
هذا ما كتب الله لي.. ولابد من الرضا به.. ولكن سأبقى فتاة في عمر الزهور.. اذكر حلمي كل لحظة.. واذكر ما كنت اشيده خلال سنيّ حياتي.. اثنتي عشر سنة من التشييد.. والآن.. انهدم.. وبقيت مع هذا الانهيار.. امزج بين بقايا البناء والدموع..
أعلم ان دموعي لا تفيد ولا تنفع بشيء.. ولكن كوني مخلوقة ضعيفة لا أقوى على فعل شيء لربما كانت دموعي هذه تعبر عن الحرارة والحرقة التي بداخلي.. فسبحانك يا الله.. انا رضيت بما كتبت لي.. لكن ادعو الله تعالى وحده مجيب الدعاء ان يقدرني على تعويض والديّ.. كما ارجو لكل من بنى له طموحاً ألا ينهار حتى لا يقول ما أردده كل حين: انهار طموحي فمن يبنيه؟!
|